كل التفاصيل الدقيقة والكثيرة التي تمر بها سورية بعد أكثر من عامين على الحرب، والتي أتت على الأخضر واليابس في البلاد، لا يمكن أن تساوي دمعة طفل ساخنة تكاد تحرق خديه حزناً، وهو يبحث عن أمه وأبيه بين أنقاض بيتهم الذي تهدم للتو، ولم يجد سوى لعبة مزقتها القذائف وطمس التراب معالمها، ولم يكترث بها، حتى ينال منه التعب ويجلس صاغرا على كومة من الحجارة، ويحدق بالسماء، رافعا كفه عاليا. ولكن ألسنة الدخان، التي ترسم بظلالها السوداء أشكالا مرعبة، جعلته يتوهم أنها الوحش القادم إليه، ويركض مذعورا كفأر، لا يعرف أين يختبئ. وإذا به يتعثر بجسد أمه، ويرتمي بأحضانها محتمياً، دون أن يدرك أنها قد فارقت الحياة. لكن حرارة الدم الذي يسيل منها، جعله يتحسس دفء الأم حتى وهي ميتة. يرجوها أن تحضنه أكثر، ويفرك بيديه الغضتين، صدرها، ليفاجأ بالدم، ويلتصق بها أكثر، ويصرخ بصوت ربما كان أكثر دوياً من ذلك الصاروخ الذي حط عليهم "أمي.. أمي.."، ولا مجيب سوى أزيز رصاص متقطع، يجبره على الانبطاح أكثر، ليختفي صوته رويداً رويداً بعد أن حظي بطائشة من يد محترف، فضاع الصوت مع مئات الأصوات التي نادت من هنا وهناك، ولم يرد عليها حتى الصدى. احترافية الموت إنها تراجيديا الموت والعذاب والقهر، التي تختلف من مكان إلى آخر، وتبقى الطفولة مستباحة في ساحات الوغى، دون أي وازع من ضمير، ليفقد أطفال سورية طفولتهم، وليتركها الجميع في مهب الريح، فيما تلتقط الكاميرات وعدسات المصورين، أكثر الصور احترافية لموت مهين، يتلاعب بأجساد غضة تفنن الكل في كيفية استثمارها لصالحه ضمن حسابات الربح والخسارة وترجيح الكفة، التي تلوثت بدمائهم البريئة. تلك قصة من بين آلاف القصص التي يعانيها أطفال سورية، الذين لم يعد يحلمون بأكثر من ليلة هادئة دون ضجيج كبار الحرب وصغارها. نصيبهم من الموت وتذكر الإحصائيات الرسمية أن عدد الأطفال الذين قضوا في الحرب ال6500 طفل. ويكاد الرقم يصيب المتابعين بالذهول، ولكن على أرض الواقع تكاد تكون المصيبة أكبر من تلك الأرقام المعلنة، فمن مات في الحرب جراء القذائف والرصاص والذبح وغيرها من آلة الموت التي لم توفر هذه الأجساد الغضة. فهناك من مات بشكل آخر ولم تتم إضافته كرقم إلى عداد الموتى في سورية من الأطفال، وهناك من مات بسبب المرض ومنهم بسبب الجوع ومنهم بسبب النزوح، أو حوادث عابرة كانت الحرب وراءها. أحلام مؤجلة استوقفنا عدد لا بأس به من الأطفال لنسألهم عن أحلامهم، وعن العيد والفرح، والمستقبل؟ غالبيتهم مسهم التشاؤم ولم يفرجوا عن أمانيهم، بل تركوها أسيرة اللحظات الصعبة التي يمرون فيها حاليا. ويقول أيمن (15 سنة) عن أي فرح تحدثنا وقد فقدنا أغلى ما نملك؟ فقدنا إخوة لنا وأصدقاء ودارنا البسيطة، لم يعد لدينا وقت للفرح. ويرد عامر(13 سنة) على سؤالنا عن حلمه قائلاً، أن تتوقف آلة الحرب عن القتل، لقد باتت أحلامنا أقل من أحلام العصافير التي تحلم بأن تطير. نحن نحلم فقط بعودة الأمان وأن يبعد الصياد بندقيته عنا. وسألت أيهم صاحب ال10 سنوات عن العيد الذي سيحل بعد أيام، ورد قائلا بحزن: ليته لن يأتي ويؤجل قدومه ريثما نستعيد عافيتنا وتنتهي الحرب، لقد مللنا، نسينا المراجيح والثياب الجديدة والحلوى، نرجوكم ارفعوا صوتنا عاليا ليسمعونا لعلهم يفقهون قولنا. معاناة النزوح الأهالي الذين اضطرتهم الحرب الدائرة إلى النزوح لأماكن أخرى، سجلوا أبناءهم بمدارس نظامية، ومع ذلك فإن في بعض المدارس من ينظر لهؤلاء الأطفال نظرة مختلفة. وتشير السيدة حنان قائلة: ينظرون إلى ابني بشكل عدائي في غالبية الأحيان وكأنه هو من تسبب بالحرب الدائرة بالبلاد، ليس له ذنب أبدا وحتى الآنسة (المعلمة) لا تهتم به مطلقا. وهذا ما اتفقت عليه غالبية السيدات اللواتي التقيناهن في عدد من المدارس التي تضم أبناء العائلات الوافدة. وفي مدينة أخرى بعض المدارس عاملوا أبناء الوافدين إليهم معاملة غير لائقة وكانوا يتركونهم واقفين، ولايعطونهم الكتب، وليس لهم دور سوى الاستماع للدرس، هكذا وصف بعض الأهالي حال أبنائهم هناك. مدارس مفقودة ووفق الإحصائيات الرسمية من المنظمات العالمية ومن الواقع الذي يعيشه السوريون على الأرض، فإن نسبة كبيرة من المدارس السورية هدمت. وحسب منظمة "انقذوا الأطفال" الخيرية، فإن أكثر من خُمس المدارس في سورية دمرت أو باتت غير صالحة للاستخدام، وهو ما يهدد تعليم 2.5 مليون طفل. ويعاني أطفال المناطق الساخنة من حرمانهم من التعليم على مدى عامين دراسيين بسبب إغلاق المدارس أو تهدمها، ويلجأ الأهالي إلى زج أطفالهم بمدارس بسيطة للغاية من أجل المحافظة على مستواهم التعليمي. لكن "أبو أيمن" يقول: "لا أعرف إن كان هذا التعليم يؤهل أبنائي لكي يستمروا أو يقبلوهم في السنوات المقبلة بصفوفهم النظامية". وفي مكان بعيد من العاصمة تجد مئات الأطفال الذين حُرموا من مدارسهم، رسمت الحرب معالمها على وجوههم. ويبادرك الطفل يامن، الذي لم يتجاوز العقد الأول من عمره بالقول: حرموني مدرستي وكتبي، تهدمت المدرسة فوقنا وبالكاد نجونا، ما زالت أصوات القذائف تلاحقنا، نسيت ما أخذته في الصفوف الأربعة الأولى، ويتابع بحرقة عن أي حلم تسألني، وأي مستقبل، نريد أن نعيش بأمان بعيداً عن هذه المناظر. رهاب نفسي واستنكر طبيب الأطفال (س.ع) حالات القهر النفسي، التي تصيب الأطفال من جراء هذه "الحرب المجنونة" - على حد قوله -. ويضيف: كيف لهؤلاء الأطفال أن تتم إعادة تأهيلهم بالشكل الصحيح؟ لقد شاهدت حالات كثيرة لأطفال في المدن الساخنة وتبلغنا عن حالات مشابهة، كلهم مصابون بأمراض نفسية تعود غالبا للخوف والهلع الذي يصيبهم من جراء الغارات الحربية والقصف الهائل والمناظر المرعبة التي يشاهدونها، والموت الذي يمر بجوارهم كل لحظة ويشاهدونه باستمرار. كل هذا جعل الأطفال يعيشون كابوسا يؤرقهم ليل نهار، ولا يعرفون كيف يتخلصون منه، لأنهم يعيشون وسط الحدث، وبالتالي هم أكثر عرضة لمضاعفات نفسية قد تؤثر في حياتهم المستقبلية وتكوين شخصيتهم التي عايشت واقعا غير الذي كانوا يحلمون به. تبول لا إرادي ويعدد لنا الدكتور (ج. س) أمراضا كثيرة أصابت أطفال سورية من جراء الحرب وإرهاصاتها، ومنها حالات كثيرة من التبول اللاإرادي، الذي يعاني منه الأطفال وبعض اليانعين وربما حتى بعض الكبار بسبب الخوف، وقوة الأصوات التي تحدث فجأة، مما يحدث ارتخاء في العضلات اللاإرادية، وهذا ما يقلق الأهل كثيرا. وبسبب نقص المواد الغذائية وغياب التغذية الصحيحة، يصاب الأطفال بنقص مناعة وسوء تغذية، مما يجعلهم عرضة لأي فيروس أو مرض عابر أو وباء مما يهدد حياتهم بالخطر، والحالات التي أتحدث عنها موجودة بكثرة. ويضيف: هناك أيضا أمراض جلدية كثيرة أصيب بها الأطفال، جراء قلة النظافة التي تعود إلى غياب المرافق العامة والمياه والصابون وغيرها، هناك حالات من التحسس، والحكة الجلدية، وحتى الجرب، والقمل، ونقص المياه يؤدي لكل هذه الأمراض. تلوث واختناق ويصف أهالي الأحياء المنكوبة والمناطق الساخنة الذين يتعرضون بكثرة للقذائف التي تخلف السحب الدخانية، وتسبب الحرائق الكبيرة التي تلوث الجو مما تنعكس سلبا على صحة الناس بشكل عام في تلك المناطق والمناطق المجاورة قائلين: بالكاد نتنفس يوميا وأطفالنا هم الأكثر ضررا وليس لدينا حل سوى بالوسائل البدائية لتجنب هذه الملوثات، حيث نعمد إلى تغطية وجوهنا بقطع قماش مبللة وهذا أقصى ما نستطيع فعله، فيما يصف الدكتور (خالد. ح) تلك الحالة بقوله: تسبب الغازات المنبعثة من القذائف حالات اختناق عامة، حيث تنتشر بالجو على ارتفاعات منخفضة، وهي في الغالب غازات مؤذية للقصبات الهوائية والرئتين، وما تحدثه من حرائق هائلة أيضا تساهم في زيادة التلوث البيئي الذي ينعكس على الإنسان، والأطفال أكثر عرضة من غيرهم لتلك الأعراض وهناك حالات ربو وسعال والتهاب قصبات حاد، باتت مزمنة لدى الأطفال، ولا ينجو منها الكبار، كما أن غياب الرعاية الصحية والأدوية الكافية ووسائل الأمان يصعّب من هذه الحالات، وأحيانا لا يستطيع الطبيب أن يفعل شيئا لعدم وجود الأوكسجين والبخاخات اللازمة ويقف مكتوف اليدين حيالها. متسولون وجائعون لن يكون من الصعب أن يرصد أي متابع حالات التسول الكثيرة بين الأطفال الذين يبحثون عن مورد رزق، وهم منتشرون بكثرة في المدن وفي الأحياء، ولو تحدثت مع أحد هؤلاء الأطفال لأجابك ببراءة "بدنا ناكل". طبعا قد لا تجد هذه الظاهرة في المدن الصغيرة والقرى، ولكنها موجودة في العاصمة والمدن الأخرى، إنما يكون للتسول في بعض الأماكن طابع آخر، يتم من خلاله البحث عن لقمة عيش بواسطة أبرياء دفعتهم حاجتهم وحاجة أهلهم للزج بهم في هذه المصلحة. ويقول أبو مصطفى الذي كان يراقب أولاده من بعيد وهم يتسولون له: "ماذا أفعل يا أخي؟ ما في شغل والأولاد بدهم يأكلوا". وبقي وحيدا لم يكن أمام أم أحمد التي تسكن في حي القابون إلا أن تشد يد هذا الطفل وتسحبه معها وهي تستعد للنزوح مع ما تبقى من عائلتها. ومع أنها لا تعرفه جيدا، أجبرته على أن يركض معها وتخرج، وبعد أيام تتفاجأ أن الطفل خالد (7 سنوات) بات وحيداً في هذه الدنيا، فقد ماتت عائلته بأكملها تحت القصف، وقد شاهد ذلك بأم عينيه، ولم يكن يريد أن يخرج، بل أن يبحث عنهم تحت الركام، لكن يد أم أحمد كانت أرحم من يد قاتلي أهله، ولكنها تتألم يوميا عشرات المرات وهي ترى خالد وهو يسرح بفكره بعيدا ويجلس صامتا لساعات ويتحدث بحزن عن أهله، ولا تعرف كيف تجعله ينسى أو تلهيه قليلا فشرود الطفل بات يؤرقهم ويعذبهم كثيرا، مما جعلهم ينسون مأساتهم، ويلتفتون لخالد الذي باتت قصته على كل لسان. تلويث الطفولة لن يفاجئك منظر الأطفال وهم يلعبون لعبة "عسكر وحرامية" ويصنعون بأيديهم أدوات اللعبة من خشب قديم وقطع بلاستيكية مرمية هنا وهناك، الكثيرون في غالبية المناطق السورية زجوا بأطفالهم في أتون الحرب، التي لا يدركون بعد أبعاد اطلاع أطفالهم عليها. وتقول الاستشارية النفسية (س. ع): ينسى الكبار أنفسهم وهم يتفرجون على التلفزيون ويشاهدون مناظر القتل والأموات وأطفالهم معهم يتفرجون، كما أن الأطفال يرون بأم أعينهم الجثث وهي ملقاة على الأرض، وأحيانا يستعر النقاش حول الأزمة والأطفال يستمعون بل وبعضهم يشاركون، ومنهم من يحملها خارج المنزل ليشارك بها رفاقه، وهناك طفل فقد أهله أو فقد صديقه، أو قريبه، مما أثر على سلوكه وحتى منطقه، وهنا لا أتحدث عن مناطق ساخنة فقط بل ومناطق هادئة أيضا، الأمر ينطبق على كل فرقاء الحرب، وهذا الذي يحدث يؤثر على سلوكياتهم ونفسياتهم وربما قراراتهم المستقبلية، فكما يرون الكبار يفعلون سيتقمصون ما يدور حولهم لينسجوا شخصيتهم على منوالها سواء كان الحق معهم أو عليهم. .. والأممالمتحدة تؤكد اسخدامهم "دروعا بشرية" حذرت الأممالمتحدة من أن الأطفال يشكلون أهدافاً لقناصة ويستخدمون دروعاً بشرية في الحرب في سورية، مشيرة إلى أن عدد ضحايا الحرب الدائرة هناك تجاوز 93 ألفاً. وصرح الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، في تقرير أصدرته بتاريخ 13 يونيو الماضي في نيويورك، أن الحرب الدائرة في سورية منذ 26 شهراً تلقي بعبء "غير مقبول وغير محتمل" على الأطفال الذين قتل منهم الآلاف حتى الآن. وأكد مكتب الممثلة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالأطفال في النزاعات المسلحة ليلى زروقي، أنه تلقى "تقارير تم التحقق منها بأن أطفالاً سوريين قتلوا أو أصيبوا في عمليات قصف عشوائية أو أصيبوا برصاص قناص أو استخدموا دروعاً بشرية أو سقطوا ضحايا تكتيكات ترهيبية". وقدمت زروقي التقرير الذي أفاد بأن فتياناً في العاشرة وما فوق استخدموا من طرف مجموعات مسلحة للعمل كمقاتلين وحمالين. وأكد التقرير أن العنف الجنسي استخدم من طرف قوات بشار الأسد ضد فتيان للحصول على معلومات أو اعترافات بحسب الممثلة الخاصة، لافتاً إلى أن معتقلين يافعين في سن الرابعة عشرة وما فوق عذبوا كالبالغين "بما في ذلك إخضاعهم لصدمات كهربائية والضرب واتخاذ وضعيات مؤلمة والتهديد والتعذيب الجنسي". كما أن آلاف الأطفال "شاهدوا عناصر من عائلاتهم يقتلون أو يصابون" بحسب التقرير.