في آخر أفلام فيديركو فيلليني «وتبحر السفينة» الذي يروي قصة مجموعة من الأصدقاء يبحرون حاملين رماد مغنية أوبرا توفيت حديثاً ليذروه في مياه الجزيرة حيث ولدت، وأثناء الرحلة المليئة بالمفارقات الجنونية، يتكئ مغنّون أوبراليون على سياج السفينة ويطلقون أصواتهم عاليةً، ومن هناك تنتقل الكاميرا إلى جوف السفينة حيث غرفة المحركات فنرى العمال الملوّثين بالشحوم والزيوت والفحم، وقد تركوا أشغالهم واستكانوا منصتين الى صوت الأوبرا. عادني ذلك المشهد في أمسية سمر سماحة على مسرح مهرجانات جبيل أول من أمس. ربما لأنني كنت خائفاً ألا يجد جمهورنا العريض ما يأسر إصغاءه في «الأوبرا المجنونة» كما جاء في عنوان الأمسية. لكن الجمهور شاشة بيضاء تعكس ما ينعكس عليها مهما اختلفت مستوياته الثقافية وتعددت مشارب ذائقته الفنية. صحيح أن الفن الأوبرالي عموماً وافد خجول على مسارح مهرجاناتنا، ولذا نتوقع ممن يعدون العدة لتكوين جمهور يصغي بمعرفة وتقدير أن يساهموا في خلق الوعي والتنشئة الذكية في صفوف الجمهور، لكن الفنانين يغرقون بطبيعة الحال في تفاصيل مشروعهم غرقاً يتعمق أكثر فأكثر بقدر ما تكون إمكانات العمل ضئيلة أو محدودة، وفي إمكانهم أن يتجاوزوا استراتيجية التواصل الضرورية، وذلك ما حدث بوضوح في الجزء الأول من «الأوبرا المجنونة». الخطة الكلاسيكية الوطيدة تقوم على البدء الهادئ البطيء وصولاً إلى تصعيد تدريجي. لكن هذه المقاربة مفصلة على مقاس جمهور جاهز نوعياً وثقافياً، أي لديه المرجعية الكافية لاستيعاب خطوات التصعيد المتوقع، اما الجمهور المختلط والمعتاد نمط الإيقاع السريع فالمرجح أن يصاب بإحباط لا فائدة منه إذا كنا في سبيل إرساء تقليد اوبرالي في لبنان والعالم العربي. لحسن الحظ ان البداية البطيئة لم تستمر طويلاً ولم يصب التململ الذي رافقها كيان العرض بصدع دائم. ربما لأن المؤلف الأرجنتيني إستوري بيازولا (1921 - 1992) يتمتع بأفضلية ملحوظة لدى سمر سماحة إذ كرّمته بثلاث مقطوعات هي «وحيد القرن»، «آفي ماريا» و «ليبرتانغو». والمعروف أن بيازولا ميلوديّ المنحى، تتوشح دراميته بكثير من اللمعات الفكاهية ومؤثرات التانغو والجاز. لكن الأهم ان صوت سمر الساحر ومشاركة طوني أبو جودة وزياد سحاب وفرقة راقصي وراقصات محترف جان صقر، تآزرت في باقة استعراضية سرعان ما استوعبت شغف الجمهور الذي تجاوب بحماسة حتى القفلة. لصوت سمر سلامة وقع جرسيّ شفيف، متين، عميق التجربة. وهي على المسرح مرتاحة ومسترسلة في عطائها الواثق واللاهي في الوقت نفسه. منحتها المعرفة المنهجية في دراسة الحضور أمام الكاميرا والتوجه بالصوت والصورة الى الجمهور العريض قدرة تلوين انسيابها الحركي على الخشبة، ووظفت ليونتها البدنية للمشاركة في الرقص وبرعت في تمثيل التوضيب المشهدي الذي رافق بعض المقطوعات كان اجملها أغنية «قديش كان في ناس» لفيروز وزياد الرحباني. بعد ختام دراستها الوسائل السمعية - البصرية في الجامعة اليسوعية، والموسيقية في الكونسرفاتوار الوطني في بيروت، سافرت سمر الى نابولي حيث جالت إيطاليا طوال سنة في عمل أوبرالي كبير بقيادة المايسترو روبيرتو دي سيمون. ثم حملت تجربتها وطموحها في سلة واحدة الى روما لتلتحق بالكونسرفاتوار الوطني، سانتا سيسيليا. وعام 2006 حازت على دبلوم الغناء فيما كانت تضيف الى سلتها مساهمات ثمينة في أعمال طليعية عبر أوروبا، لا سيما مشاركتها في إحياء ذكرى بيار باولو بازوليني وبلوغها التصفية النهائية في مباراة ماتيتا باتسيني. بعد ست سنوات عادت من إيطاليا مندفعة برغبة المشاركة في توطيد المسار الأوبرالي في لبنان. شاركت في أعمال مهرجان البستان للموسيقى الكلاسيكية، وفي مهرجانات جبيل 2010 وفي احتفالات الحفاوة بزيارة البابا عام2012، ناهيك بالأمسيات الجوالة في الجامعات والجمعيات. «لم أنم لحظة الليلة الماضية» تقول سمر ل «الحياة» بعد أمسية جبيل، «ولا أظنني سأنام الليلة. اما غداً فالى شاطئ البحر... للراحة!». كان التحضير للأمسية مرهقاً بالغ التوتر، تخبرنا سمر، ولم تستطع الفرقة أن تقوم بأكثر من تجربة على مسرح المهرجان، فيما بقية التجارب حصلت في مكان آخر... مع ذلك لا يسعنا سوى الشعور بالفخر لأن مجموعة موسيقيين على رأسهم المايسترو توفيق معتوق، وحفنة من الراقصين والراقصات الشباب، تمكنوا من تثبيت ما لا يقل عن ألفي مشاهد في مقاعدهم طوال عرض أوبرالي واعد وعلى جانب كبير من الأداء المهني.