كان مصطفى لطفي المنفلوطي (1876 - 1924) ظاهرة غير مسبوقة في إنشائه الخلاب، وفي صوره المنحوتة البديعة، وفي مواجده الباكية، وأحاسيسه التي ألهبت قُرّاءه؛ فتخطفوا كتاباته، وهم له مغرمون، وبه متيَّمون، حتى أضحى إماماً لمدرسة ترتاد طريقته في الكتابة، وصار له مريدون، ومقلدون في العراق، والشام، والحجاز، والمغرب العربي. أحدث المنفلوطي في الجيل الجديد - وقتها - ثورة في عالم الكتابة، تُخالف ما قبله، وتبشر بما بعده، فهو تخلَّص من ركاكة الأسلوب الغارق في أوحال التراكيب التركية الركيكة؛ فانفتح على أدب البوح، والاقتباس، وحكايات الغرب، وقصصه العجيبة؛ وعجن ذلك كله في وعائه اللغوي الخاص الذي كان فاتحة القرن العشرين في فن الإنشاء، والكتابة. مزج بين روعة الحكي الفرنسي وحرارته، وبين الأداء اللغوي المتين؛ فتخلى عما لا يخدم فكرته، وأضاف ما لا يتعارض مع الواقع، والأعراف. كان لا يعرف اللغة الفرنسية؛ فاتفق مع أحد أصدقائه العارفين بها؛ فكان يقص عليه أحداث الروايات التي تروقه؛ ثم يقوم هو بتمصيرها، وإلباسها اللباس العربي الشرقي، وهو ما نجح فيه؛ على عكس حافظ إبراهيم في تعريبه لرواية «البؤساء» لفيكتور هوغو؛ فأسلوبه أقل طلاوة ورشاقة من صاحبه. ومن آيات المنفلوطي الشاهدات على فطنته؛ كما يقول الطاهر أحمد مكي في كتابه الموسوعي «الأدب المقارن أصوله وتطوره ومناهجه»، أنه «رأى أن ذوق الجمهور في مطلع القرن الماضي يختلف عما قبله؛ فانساق وراءه مترجماً ومقتبساً ومجدّداً»، فاستجاب دواعي التطوير الاجتماعية والثقافية، وظروف العصر الملحّة. وصفه أحمد حسن الزيات في كتابه «تاريخ الأدب العربي»، فقال: «إنه كان مؤتلف الخلق، متلائم الذوق، متناسق الفكر، متسق الأسلوب». وبلغ من تقدير الأدباء له؛ أن نجيب محفوظ كان في طليعة المعجبين بأدبه؛ حتى إنه بكى عندما عرف أن صاحب هذه القصص الجميلة التي تسحره، وهو صغير؛ فارق الحياة قبل عشر سنوات، فقال عنه: «إن أسلوبه جديد ساحر. لقد قام المنفلوطي بنقلة كبيرة جداً في عصرنة الأدب وتجديده، قبل المجددين الرواد». بدأ المنفلوطي حياته شاعراً لا يعرفه أحد، وأنهاها إماماً للنثر؛ بل صار أمير البيان؛ كما خلع عليه محمد أبو الأنوار هذا اللقب في دراسته التي حملت هذا العنوان. في حياته القصيرة؛ هاجم الخديو عباس حلمي؛ الذي كان على خلاف مع مصطفى كامل في قصيدته التي دخل بسببها السجن عاماً، فقال فيها: «قدوم ولكن لا أقول سعيد/ وملك، وإن طال المدى سيبيد/ فلما توليتم طغيتم، وهكذا/ بِحار الندى تطغى، ونحن ورود». وأعطاه المازني بعض حقه المغبون؛ بعد أن هاجمه بضراوة في كتاب «الديوان» من قبل؛ ففي مقال له عقب وفاة المنفلوطي في جريدة «الأخبار» القديمة؛ قال: «فليس من شك في أن المنفلوطي أصاب حظاً وافراً من الشهرة واستفاضة السمعة، وأن كتبه العديدة تلقى إعجاباً وموافقة ليس بهما من خفاء، فإذا كان هذا دليلاً على شيء؛ فهذا الشيء عندنا هو أنه ابن عصره ووليد زمنه الذي نشأ فيه، وأن بينه وبين جمهور قرائه تشاكلاً لا يزال مستمراً إلى حد كبير في عصرنا هذا، وقد يصعب على من تأخر به الزمن عن المنفلوطي وورد شِرعة أخرى من الأدب؛ أن يقدّر النجاح الذي وُفِّق إليه رحمه الله من أول الأمر». ومن قبل؛ كان عباس العقاد ينهى تلامذته عن احتذاء المنفلوطي في أدبه الحزين، فقال لهم بلهجة حازمة: «من كان لديه إفراط في إفراز الدمع؛ فليذهب إلى طبّاخ المدرسة، ويشمّ البصل الصعيدي ليُخرج ما في داخله من دموع، ثم يكتب شيئاً قوياً لا حزيناً باكياً دامعاً»، لكنه اعترف له بعد ذلك بمكانته في دنيا الأدب. ولكن علينا أن نلتمس للمنفلوطي بعض العذر في الأخطاء، والهنّات التي وقع فيها؛ إذ كان يدشّن بداية مرحلة جديدة في أدب القص، والرواية، لم تعهدها البيئة العربية من قبل. فلولا البدايات ما كانت النهايات. ولولا المنفلوطي؛ لما قرأنا أدب محمود تيمور، ولا فريد أبو حديد، ولا نجيب محفوظ، ولا يوسف إدريس، ولا إحسان عبد القدوس، ولا معروف الأرناؤوط، ولا شكيب الجابري، ولا غسان كنفاني، ولا إميل حبيبي، ولا وداد سكاكيني، ولا عبد الرحمن منيف، ولا سهيل إدريس، ولا جعفر الخليلي، ولا الطيب صالح، ولا غادة السمان، ولا الطاهر وطار، ولا زكريا تامر. غاية ما هنالك؛ أن المنفلوطي كان ابن عصره، وبيئته، وثقافته الإحيائية؛ فاستطاع أن يتحرّر ما وسعه التحرر من بعض قيود الماضي؛ لينفتح على أدب الآخر وفق ما وصله، وما امتلكه من موهبة، وثقافة. نقده عمر فاخوري؛ فقال: «إن للمنفلوطى رأياً عجيباً فى التعريب، وجرأة على التغيير والتحوير والقلب عالياً على سافل، جرأة لا يسمح المؤلف نفسه لنفسه بأكثر منها». وقال عنه الناقد عبد المحسن طه بدر في كتابه «تطور الرواية العربية الحديثة في مصر»: «كان يخلق الرواية المترجمة خلقاً جديداً يتلاءم مع ذوق قراء عصره، هذا الذوق الذي يعجب بالإغراق فى العاطفة». ولَكم أصاب الحقيقة المستشرق الفرنسي هنري بيريس في مقال نشره في حولية معهد الدراسات الشرقية في الجزائر، عقد فيه موازنة بين الأصل والتعريب في فن المنفلوطي؛ فقال: «إن المنفلوطي لا يُبقي من النماذج التي بين يديه إلا ما يخدم رسالته، وعندما يشعر أن النص لا يُسعفه، أو أن إسعافه ضعيف؛ فإنه يتدخل تدخلاً ذاتياً؛ كيما يُضخّم بمنطقه الشرقي فكرة داخل النص لا تكاد تبين لإيجازها». هاجمه بعنف طه حسين في مقالاته التي كان عنوانها «نظرات في النظرات» وقيل إنها نسبت إليه، فقال: «للكاتب على شغفه بجودة العبارة، وحسن الإشارة؛ كلّفه بأن يكون كلامه فخماً سهلاً، وخفيفاً جذلاً، وأن يكون أسلوبه أنيقاً، ولفظه رشيقاً؛ فكثيراً ما يُلجئه الحرج إلى سخف الاستعارة، والتشبيه، ويضطره إلى أن يكون كلامه رثاً غثاً، وأسلوبه ساقطاً مبتذلاً، وكثيراً ما تحمله قلة المادة اللغوية على اللحن الفظيع، والغلط الشنيع، والخطأ المخجل فى الاستعمال». لكن الأديب وديع فلسطين يروي أن الشيخ محمود أبو رية أخبره أن كاتب هذه المقالات هو محمد صادق عنبر، وأنها حملت اسم طه حسين لاعتبارات سياسية، والدليل أن النقد الموجه إلى «النظرات» انصب على الجانب اللغوي، وهو ما يختلف عن أسلوب طه حسين في النقد. من أقواله ومن أقوال المنفلوطي عن البائسين المحرومين: «ليتك تبكي كلما وقع نظرك على محزون، أو مفؤود؛ فتبتسم سروراً ببكائك واغتباطاً بدموعك؛ لأن الدموع التي تنحدر على خديك في مثل هذا الموقف؛ إنما هي سطور من نور». وقال أيضاً: «لا أعرف مخلوقاً على وجه الأرض يستطيع أن يملك نفسه ودموعه أمام مشهد الجوع وعذابه غير الإنسان». وقال كذلك: «لو تراحم الناس ما كان بينهم جائع، ولا عريان، ولا مغبون، ولا مهضوم». وشاءت إرادة الله؛ أن تكون نهاية هذا الكاتب الشهير؛ فى اليوم الذي جرت فيه محاولة اغتيال الزعيم سعد زغلول؛ فلم يحفل به أحد؛ اللهم إلا بعض الأدباء، وعلى رأسهم أمير الشعراء أحمد شوقي الذي قال في رثائه: «اخترت يوم الهول يوم وداع/ ونعاك في عصف الرياح الناعي/ هتف النعاة ضحى؛ فأوصد دونهم/ جرح الرئيس منافذ الأسماع/ من مات في فزع القيامة لم يجد/ قدماً تشيّع أو حفاوة ساعي/ ما ضرّ لو وقفت ركابك ساعة/ كيف الوقوف إذا أهاب الداعي/ خلّ الجنائز عنك، لا تحفل بها/ ليس الغرور لميّت بمتاع». ورثاه شاعر النيل حافظ إبراهيم؛ فقال: «رحم الله صاحب النظرات/ غاب عنا في أحرج الأوقات»! للمنفلوطي أعمال أدبية معنية بتحقيق العدالة، والحضّ على الفضيلة، والانتصار للفقراء، منها: قصة بول وفرجيني لبرنار دي سان بير، وهي التي سماها «الفضيلة»، ورواية «ماجدولين» أو «تحت ظلال الزيزفون» لألفونس كار، ورواية «الشاعر» لأدموند روستان، وكذلك رواية «في سبيل التاج» لفرانسوا كوبيه، و»العبرات»، و»النظرات»، وله مختارات شعرية ونثرية. درس المنفلوطي في الأزهر، بعد أن حفظ القرآن الكريم في مسقط رأسه في مدينة منفلوط في صعيد مصر؛ إلا أن حاسته الأدبية صرفته عن إكمال الدراسة؛ فاتجه إلى دنيا الكلمة، وعالم الفن والنبوغ؛ فأخلص لموهبته؛ وجوّد في بضاعته؛ إلى أن صار علامة فارقة في الأدب الحديث.