ظلت اللغة العربية على مر القرون تحافظ على هويتها ولان القرآن الكريم انزل بهذه اللغة فقد تكفل بحفظها لكن عرى السنين وتغير المقومات الحضارية وفقدان العرب سيطرتهم على العالم، بدات اللغة العربية في التراجع عن الصدارة بعد ان كانت جميع الامم تستفيد منها وتغذي علومها اعتمادا عليه. هناك من النقاد من يعتد بان هناك مخاطر تترصد اللغة العربية فهناك ضغوط داخلية تدعي الحرص على اللغة فتسعى للتضييق عليها وابقائها على ماهي عليه سواء في مراحلها المتطورة او ابقائها متخلفة حتى اوصلتها لدرجة الموات، ومن جانب آخر ضغوط خارجية لعلها تتوازى معها فتصفها بالمتأخرة وعدم مقدرتها على مواكبة تحديات العصر، وعدم تمكنها من التلاؤم مع التكنولوجيا الحديثة. فالانترنت على سبيل المثال تقنية حديثة واللغة التي تسيطر عليها هي الانجليزية ويسعى الفرنسيون لاتخاذ مكان في هذا المجال، اما اللغة العربية فلا تملك اي حصة سوى مجرد التواجد كمواقع فقط. ولعل هناك الكثير من الكتب والمؤلفات التي تحاول تأكيد احقية ريادة اللغة العربية وقدرتها على التماشي وفق متطلبات العصر، ففي اللغة العربية عبارات وقواعد وآداب لم تزل حية تنمو مع نمو الحياة، اذ انها كائن حي ينمو ويموت حسب الرعاية له. ونحن هنا نحاول ان نرصد بعض الآراء التي تقترب او تبتعد عن هذه الرؤية التي مازالت في شد وجذب فاللغة العربية بحاجة الى من يمد يديه اليها سواء كان ذلك من خلال ندوة او مؤتمر او اطروحة فكرية. بداية يقول الدكتور محمد ربيع الغامدي رئيس قسم اللغة العربية بجامعة الملك سعود ان التحديات التي تواجه اللغة العربية اليوم نسبية وليست كما يطلق بشكل عام، اذ ان التحدي الحقيقي الذي يواجهها هو كيفية تقديمها وتطويرها والانصياع للتطور الذي تمر به الظاهرة اللغوية، اما تجميدها بدعوى الحفاظ عليها فهو يسيء اليها، معتقدا ان تطويع اللغة يساير الركب العالمي في البحث اللغوي باعتبار اللغة في احد جوانبها ظاهرة لغوية كأي لغة في العالم، دون ان ننكر خصوصيتها. من هنا نستطيع الدخول الى عمق المواجهة مع التحدي اما المكابرة واحاطتها بشيء مما نظنه حماية فهو الامر الذي قد يكون هادما لها دون معرفة منا. ويضيف الغامدي اننا نتحمل مسئولية خدمة هذه اللغة لسبب اهم وهو انها لغة القرآن فاللغة العربية لها خصائص لا يمكن ان تشاركها فيها لغة اخرى فهي تنفرد بكونها لغة القرآن وهذا السبب الجوهري هو الذي يحمل اتباع الدين الاسلامي الناطقين باللسان العربي مسئولية ضخمة، ولو كنا قد قمنا بمسئوليتنا تجاه اللغة العربية لكانت من اللغة الاولى التي تنافس الانجليزية والالمانية والفرنسية. اما بالنسبة لتخوف على اللغة فثمة خوف ايجابي وآخر سلبي ويحق لنا ان نخاف على اللغة مثلما فعل الفرنسيون في خوفهم من غزو اللغة الانجليزية لكننا في الحقيقة نقف امام مسألة تطور اللغة وعلينا في مثل هذه الحالة ان نتبع الخطوات العملية الكفيلة بذلك بدلا من الخوف، فحينما تبالغ الأم في حفظ وليدها عن الشمس والهواء تذرعا وتخوفا على صحته ستكون النتيجة اصاباته بالامراض المختلفة لانه لم يأخذ القسط الوافر من الشمس والهواء الضروريين فالمبالغة في الحفاظ على الشيء يضره احيانا لكن المواءمة بين مسئولياتنا ومتطلبات لغة القرآن ومتطلبات الحفاظ عليها واخضاعها للبحث العلمي باعتبارها لغة مثل اي لغة اخرى يعتبر هو الطريق الصحيح والسليم في الحفاظ عليها. ويرى الغامدي ان تطوير اللغة من خلال المواءمة يعد عملا متعبا وعلينا ان نسعى لتضافر الجهود والقيام بدراسة دؤوبة وحث الباحثين على زيادة النشاط من خلال المؤتمرات والندوات الامر الذي يجعل اللغة تسير بخطة التقدم وتستطيع مسايرة البحث العلمي والذي بالتالي سيجعلها في مصاف اللغات الأولى. الا ان البحث العلمي في العالم العربي يعاني من انقطاع الجهود وعدم التواصل والقطيعة العرفية في هذا المجال مؤداها عدم التنسيق بين مختلف المؤسسات البحثية والتي لها اهتمامات في مجال دراسات اللغة العربية وهو الامر الذي يبدو وكأنه مستحيلا. ويرجع هذا الامر بالدرجة الاولى الى عدم قيام العمل المؤسسي المنظم فأغلب العمل العربي يعتبر فرديا والفرد مهما انجز لا يستطيع ان يأتي بعمل خارق مع ملاحظة ان جهود جماعة او امة بشتاتها لا يؤدي عملا متميزا، ولذلك فالعمل المؤسسي المنظم هو الذي يتيح الالتقاء بين المؤسسات المنفردة في كل دولة على حدة من اجل تلاقح الافكار وانتاج رؤى حكيمة تؤدي في النهاية الى عمليات تطويرية في اللغة الا ان ذلك يبقى في اطار الاحلام اذ حتى بعض المؤسسات الموجودة لا تفي بالغرض. ولعلنا هنا نتساءل هل للادب العربي دور هام في الحفاظ على اللغة ومع متابعة ولو سريعة لعيون وآثار الادب العربي وهل كان له دور في اعطاء اللغة وزنا ما، ام انه مجرد نثر على قارعة الادب هذه المتابعة قد ترسم لنا صورة واضحة عن هذا التساؤل. فقبل مجيء الاسلام ونزول القرآن كأرقى كلام في اللغة العربية كان هناك ولا يزال تراث ضخم من الشعر والنقد والنثر والخطابة حيث كان اقل حاكم عربي في ذلك الوقت يستطيع القاء خطبة عصماء. فالحجاج على سبيل المثال رغم انه كان سفاحا الا ان لسانه كان خادما للغة وان كان الحجاج ليس المثال الذي يمكن ان يقاس هنا الا ان ذلك يدل على ان اللغة في العصور الاولى كانت في اوجها من خلال الحكمة والادب والبيان. ويعتقد الدكتور عبدالمنعم تليمة استاذ الادب العربي بكلية الآداب جامعة القاهرة ان الابداعات النثرية واهمها كتاب (النوهم) لها اهمية كبيرة فهي اول نص نثري كامل ثم تأتي العملية الابداعية لتبلغ ذروتها عند الحاجظ المتوفى سنة 255ه ثم ابي العلاء المعربي في رسالته الغفران مما جعل اللغة العربية لغة العالم كما ان حديث الاسراء الذي رواه ابن عباس في زمن النبوة وصل بالنثر وبتطوير اللغة العربية الى اقصى درجة لانه انتقال الى الوجدان الشعبي. ثم اتى شعر ابي نواس الذي تخلى عن التقاليد المتواترة في الشعر من بكاء على الاطلال والمديح وغيرها وفتح ابواب جديدة لاغراض الشعر مما ادى الى نحت مفردات جديدة ادت الى اثراء اللغة ومرورا بالتاريخ نجد ان كل عصر حفل بالعظماء من الناثرين والشعراء. وانتهاء بالعصر الحديث فكان احمد شوقي واسهاماته التي لا يمكن تجاهلها وكذا محمود سامي البارودي. كما ان النثر في العصر الحديث من ادوات تجدد اللغة وتطويرها مثلما حدث عند طه حسين وجبران خليل جبران ومصطفى المنفلوطي والعقاد وقد اختلفت الاغراض الكتابية لديهم بين اصلاحية وتربوية ولغوية وادبية ولا نغفل الكتابة المسرحية التي لها دور بارز في النهوض باللغة العربية وكذلك الرواية عند نجيب محفوظ الذي اعتمد على لغة الحكي والقص والسرد فكان بذلك الادب حاملا للعربية قبل ان يكون حافظا لها. ان التنوع في كل هذه الاجناس جعل اللغة العربية متنوعة الاغراض وقادرة على محاكات جميع الوان الابداعات البشرية وبهذا يمكن القول ان اللغة تعتمد على معطيات عصرها من الآداب والعلوم الانسانية فان كانت قوية في تلك الجوانب نستطيع ان نراهن على انها قادرة على الصمود. ولعل من اهم القضايا التي تهم الامة العربية هي قضية التعريب فقد انشغل بها العرب منذ القدم وعندما اسس هارون الرشيد دار الحكمة كان احد اهدافها متابعة الكتب الصادرة بمختلف اللغات وترجمتها للغة العربية وقد حرص على ان تترجم الكتب المهمة في ذلك الوقت ككتب الفلسفة والطب والعلوم الانسانية والادب. واستطاع العرب في القرون الثاني والثالث والرابع الهجرية استيعاب مصطلحات العلوم المختلفة الواردة من اللغات اليونانية والسريانية والفارسية والرومانية. ولاشك ان اللغة العربية اليوم قادرة على القيام بنفس الدور على ان تتوفر الرغبة والارادة لدى اللغويين والمهتمين والناطقين بها وذلك بالتنسيق مع العلماء في شتى فروع المعرفة تفاديا لتكرار الجهود وضياع الوقت. ويرى الدكتور سعد هاني القحطاني في كتابه التعريب ونظري التخطيط اللغوي ان التعريب بمفهومه الواسع يهدف الى جعل اللغة العربية لغة التدريس في جميع التخصصات العملية والطبية والتقنية ذلك المفهوم الذي يتضمن رؤية اكثر تحديدا لعملية التعريب وهو وضع مقابل عربي للمصطلحات الاجنبية فلكي يتم تدريس اي حقل عملي باللغة العربية لابد اولا من تعريب مصطلحات ذلك الحقل ولعل من المفيد القول بان التمسك بالتعريب هو سبيل الى حياة اللغة ونموها اما التخلي عنه فانه يؤول بها الى الاندثار والتقلص وبالتالي موتها وان كنا نشك في ذلك لان اللغة العربية لن تموت لتكفل القرآن بحفظها مؤكدا ان ذلك لن يعفينا من المسئولية وانما يحملنا تكليفا بالعمل على خدمتها وانمائها ذلك ان العلم وهو ما يجعل اللغة في اختيار صعب مضيفا ان هناك مئات الكلمات التي تدخل العربية في وقت وجيز. وتهدف استراتجيية التعريب في السعودية الى المحافظة على اللغة العربية في الاعلام التعليم ويدخل في هذا الاطار تطوير واتخاذ السبل المتاحة التي من شأنها جعل اللغة قادرة على التعبير عن المصطلحات العلمية الحديثة وكذلك الحد من انتشار المفردات الاجنبية في اللغة العربية سواء اكانت علمية ام تقنية ام طبية. ويجدر الاشارة هنا الى ان اهتمام المملكة بالتعريب قديم حيث كانت اول محاولة لتوحيد المصطلحات الطبية المعربة عام 1940م حينما كتبت العربية الى نقابة الاطباء المصرية في هذا الخصوص وقد سعت الى وضع منهجية للتعريب في الوطن العربي منذ ذلك الحين الامر الذي يعكس مدى اهتمام الحكومة السعودية بهذه القضية. وقد توالت الجهود بعد ذلك حيث عقدت المؤتمرات وانشأت مراكز تعنى بالتعريب وتوالت التعليمات بضرورة تطبيق التوصيات التي تصدر من المجامع اللغوية مثل مجمع اللغة العربية في القاهرة. وهناك توصيات اصدرها مجمع اللغة العربية بالقاهرة وحرصت المملكة على تعميمها ومنها توصيات مؤتمر عام 1992م حيث اوصى بأهمية ان يحفظ التلاميذ في المراحل الاولية ثلاثة اجزاء من القرآن الكريم لتقوية المهارات اللغوية لديهم وان تكون اللغة العربية لغة تدريس في الجامعات وترجمة الكتب العلمية والطبية والتقنية والدوريات العلمية والموسوعات الى العربية والتأكيد على استخدام اللغة العربية الفصحى في وسائل الاعلام. ومن جهة اخرى فقد عممت وزارة التعليم العالي هذه التوصيات على الجامعات لكنها افتقدت لوجود آلية او خطة عمل للتنفيذ. اما بالنسبة للتعريب في وسائل الاعلام فان سياسة الاعلام في المملكة تقوم في هذه الاتجاه على التنبيه على عدة نقاط اهمها التنبيه على كتاب البرامج والمحررين بضرورة اتباع قواعد اللغة العربية الفصحة والالتزام باساليبها البلاغية وتوجيه المذيعين ومقدمي البرامج بالتحدث باللغة العربية وتجنب كل النصوص التي تحط من قدرها والتقليص من البرامج التي تقدم باللهجة العامية. واخيرا.. تبقى اللغة العربية مادة للبحث والتطوير فهي كائن حي يحتاج الى ضخ المزيد من الحياة الى شريانه..اللغة ليست مادة جامدة نعلق عليها عقدنا واخطاءنا بأننا حراس وامناء في المحافظة عليها فليس من الانصاف جعلها منكفئة على نفسها غير قادرة على مواجهة الحياة بكل تلوناتها وتموجاتها واخطارها. اللغة العربية قادرة على مواجهة التحديات سواء تحديات العولمة او التكنولوجيا او اللغة شرط ان نعتقها من اوهامنا واذا اردنا لها ان تساير الحدث فما علينا سوى ان نهتم بأنفسنا اولا كأمناء عليها وكباحثين وكمهتمين وعلماء ونزيل الغشاوة التي وضعناها على عيوننا معتقدين انها في خطر!.