اكتُشفت أخيراً مقالةٌ لم تنشر للروائي والشاعر البريطاني دي. إتش. لورنس (1885-1930) يتبيّن فيها أن لورنس، المتهم بعدائه للنساء، لم يكن في الحقيقة كذلك، ففي المقالة القصيرة التي لا يزيد عدد كلماتها عن 185 كلمة، ويُرجَّح أنها كتبت في نهاية عام 1923 أو بداية عام 1924، يرد لورنس على أحد الكتّاب الذين يهاجمون المرأة ويصفونها بأقذع الأوصاف ويتهمونها بأنها أصل الشر في هذا العالم. وليس معروفا لماذا لم ينشر الناقد والكاتب البريطاني صديق لورنس، جون مدلتون موري صاحب مجلة أديلفي Adelphi، ردَّ صديقه الذي يتهم الكاتب عدوَّ المرأة، الذي كتب مقالته في المجلة نفسها، بأنه يعكس ما في نفسه من أمراض وعقد سيكولوجية. تتضح في مقالة لورنس، التي نشرتها مجلة ملحق التايمز الأدبي مع تعليقٍ مصاحب بقلم الأكاديمي البريطاني أندرو هاريسون، بوضوح لا لبس فيه حقيقة نظرة الكاتب البريطاني إلى المرأة، وميله إلى اتهام الرجال بأنهم يخلعون على المرأة مشاعرهم وإحباطاتهم الشخصية ونرجسيتهم الذكورية المريضة، ف دي. إتش. لورنس، الذي سبق أن كتبَتْ عنه الناقدة النسوية كيت ميليت أنه معاد للمرأة، ما أثّر سلباً على طرق النظر إلى رواياته وأشعاره وكتاباته، وصَبَغَ النقد المكتوب حول أعماله بتصور يصنفه كاتباً من خارج العصر، يقول (لورنس) في مقالته التي بُعثت من عالم النسيان قبل أيام، إن أسباب كراهية بعض الرجال للمرأة تعود إلى نظرهم إليها ك «قطعة من اللحم المثير للشهية» لا ك «كائن إنساني» مساوٍ للرجل، كما أنه يصف بعض الرجال بأنهم يشبهون «الذئاب التي يسيل لعابها لرائحة اللحم». يعود تصنيف لورنس ضمن الكتّاب المعادين للنساء إلى الطريقة التي يعالج فيها العلاقات بين النساء والرجال في رواياته، فهو يبلور في روايته «عشيق الليدي تشاترلي» (التي ظهرت طبعتها الأولى في فلورنسا عام 1928 ومنعت في بريطانيا ولم تظهر طبعتها الكاملة في بريطانيا سوى عام 1960) نوعاً من الرؤية العضوية للعلاقة الجنسية بوصفها ترياقاً شافياً لسم الثورة الصناعية ومكننة العالم والعواطف البشرية. وهو يشنّ في روايته المشبوبة، التي كانت مقدمة لما يسمى الآن الثورة الجنسية في كل من بريطانيا وأميركا، هجوماً عنيفاً على المجتمع البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى، الذي تصحّرت روحه وتحول إلى عبد للمال والتقدم الصناعي، داعياً للعودة إلى الطبيعة النضرة والعلاقات العضوية الطبيعية التي تصنع الحياة وتعبر عن المشاعر والعواطف الإنسانية الحارة المزلزلة للكيان. يمكن القول إن رواية «عشيق الليدي تشاترلي» (بالمادة الحوارية الغزيرة في ثناياها والنقاشات المحتدمة بين شخصياتها والتأملات النفسية والفلسفية العميقة لمعنى العيش والتحضر والتقدم والحب بمعناه العضوي) هي بمثابة مانيفستو مضاد للحوارات الثقافية العقيمة حول العلاقات الاجتماعية والطبقات والعلاقة بين الفكر والعمل في إطار الحقبة الفيكتورية، كما أن الرواية تمثل تعبيراً عن الحب العابر لحدود الطبقات كما تشهد عليه أعمال دي. إتش. لورنس. تصور الرواية حباً مزلزلاً بين كوني، الآتية من الأرستقراطية الإنجليزية، وبين الحارس أوليفر ميلورز الذي ينتمي للطبقة العاملة البريطانية. ويقوم الكاتب بتحفيز العلاقة من خلال الإشارة إلى عجز الزوج كليفورد تشاترلي الجنسي بعد إصابته خلال الحرب العالمية الأولى، وكذلك عبر التأكيد على التسامح في علاقات الزنى داخل الطبقة الأرستقراطية نفسها، والوقوف السافر ضدها إذا قامت في الحدود العابرة للطبقات. لكن غاية لورنس تتجاوز تمثيل علاقات الطبقات إلى التعبير بصورة حسية جريئة عن رؤيته معنى العلاقات الجسدية والهجوم على مؤسسة الزواج المسيحية الغربية، وتفضيله نوعاً من العلاقة العضوية الكونية التي تقوم على التعاطف والانجذاب الحسي والرغبة المتبادلة التي تصنع الغاية المثلى للحياة، وهي إنتاج النوع البشري. يزدري لورنس مؤسسة الزواج الغربية ويوجه لها نقداً عنيفاً في «عشيق الليدي تشاترلي»، ويبشر بنوع من الحرية الجنسية التي تفتح الأفق واسعاً على إقامة علاقات صحية بين الرجال والنساء، حتى ولو كانت تلك العلاقات قائمة في جانب من جوانبها على خضوع طرف للطرف الآخر. وهذا ما تقرر كوني فعله لتحقيق قدر لانهائي من التواصل مع عشيقها الذي اختارته بنفسها خارج دائرة الزواج الذي خنق جسدها وروحها، وجعلها تعيش مرغمة مع رجل عاجز جنسياً ولا يتوافق معها روحياً وفكرياً. وهو ما يجعل الليدي تشاترلي تغادر بيت الزوجية لترتيب حياتها من جديد. في هذا الإطار المشبوب من العلاقة الجسدية بين الليدي تشاترلي وعشيقها حارس الغابة، يصوَّر العشق بأنه موت رمزي، آني، فلحظة الاتصال الجنسي تصوَّر بوصفها طاقة كونية عضوية مغيِّرة ومزلزلة للكيان الإنساني، وأنها المحرر من رطانة النقاش الثقافي العقيم حول علاقة الإنسان بالطبيعة والبيئة. إن الرواية أغنية مديدة في مديح الجسد، كما أن الحب هنا ليس سماً قاتلاً، بل هو ترياق وإعتاق للجسد من قيوده التي فرضتها الثقافة.