عادت عاصفة الشتاء الى لبنان، بعد أن مرّ معظم شباط (فبراير) متأرجحاً بين الربيع والصيف! ثمة مثل لبناني شائع يربط هذا الشهر بتقلب الأهواء وبالدفء الكامن فيه، لكن الغيوم التقطت خيطين حاضرين في المخيلات: هاجس الاحتباس الحراري وتقلّبات المناخ، ومثله التوجس من الطيران في ظل العواصف بعد مأساة الطائرة الإثيوبية التي لم تنهِ آلامها فصولاً. وعادت الجبال لتكتسي ثلجاً متأخراً قليلاً، يحاول إنقاذ موسم السياحة الشتوية في بلاد الأرز. عاد الى الدرب الجبلية المُفضية إلى فندق «البستان» في بيت مري، هواء بارد محمّل برائحة أوراق الصنوبر المبلل بالمطر، والذي يقرص وجوه الخارجين من مهرجان «البستان» ليلاً، بصقيع وماء. وكذلك عاد الى المهرجان جمهوره السنوي المتمسك بميله للسان الفرنكوفوني، وملابسه الأرستقراطية المتباهية بال «سينييه» وال «فورير»، وعطوره الفاخرة التي تقتحم الهواء لتتمازج مع روائح المكياج المرسوم بعناية وتفاخر على الوجوه، وامتلائه بمظاهر ال «سنوب» الأرستقراطي التي يكملها انتشار الأبيض على الرؤوس. عاد هذا الجمهور ليملأ أروقة «قاعة إميل بستاني» بأرستقراطية لبنانية فرنكوفونية الهوى، يمكن تلمّس «صراعها» الخفي مع جمهور صغير من الأبناء وهم أقل تكلفاً وتعالياً، وتميل ثيابهم الى الكاجوال الأميركي، وينحاز لسانهم الى الأنكلوفونية التي يتصاعد وجودها تدريجاً في ذلك المهرجان. ربما تراكم ذلك الأمر ببطء (وأحياناً بعنف)، خصوصاً منذ صعود نخبة سياسية معينة (غير تقليدية) أعلنت نفورها من الثقافة الفرنكوفونية ونماذجها (مثلاً، جسّد الممثل الراحل غاستون شيخاني كاريكاتيراً لهبوط تلك النماذج)، فنطقت على لسان الرئيس السابق بشير الجميل بإنكليزية واضحة الميل لأميركا وثقافتها. وُصف ذلك الأمر بأنه صراع واسع بين نخب تقليدية منغلقة بثقافة إقطاعية ملوّنة بهوى فرنكوفوني بعلاقات واسعة مع فرنسا، مع نخب حديثة مدينية الآفاق بثقافة أكثر ليبرالية وبورجوازية يلوّنها الميل الأنكلوفوني وهواها الأميركي. ثمة تبسيط في الوصف السابق، لكن ظلالاً منه تقاطعت مع عرض قُدّم في مهرجان «البستان»، هو بالية معاصر (بالأحرى نيوكلاسيكي) عن رواية «عشيق الليدي شاترلي» الشهيرة، للمؤلف الإنكليزي ديفيد هربرت لورانس (1885 - 1930). كتب لورانس هذه الرواية المملؤة بالجرأة في أواخر أيامه، ثم نشرها على نفقته في 1928، فأحدثت جرأتها دوياً دفع بها الى المنع. وجرى تداولها وطباعتها «سراً»، حتى أواخر الخمسينات من القرن الماضي. وقيل الكثير عن «عشيق الليدي...»، واقتُبِست في المسرح والسينما مراراً وتكراراً. والمعلوم أنها صيغت في عز سيطرة أفكار سيغموند فرويد ومدرسة التحليل النفسي على النُخَب المثقفة في أوروبا. ووُصفت بأنها تحكي سقوط الأرستقراطية تاريخياً، وعجزها عن حلّ مأزقها، وتفكّكها أمام الحراك الهائل اجتماعياً وثقافياً الذي رافق الثورة الصناعية في الغرب. تتمسك الأرستقراطية بالقيم الموروثة، والتقاليد الراسخة، والتراتبية الصارمة، والعلاقات المرتكزة الى السلالة والأنساب، كما تميل الى هيمنة ذكورية قاسية فيما أعلت مجتمعات الصناعة الفرد وقدراته وأشواقه وحرياته، بما فيها حريته جسدياً وجنسياً، خصوصاً المرأة، على رغم أنها تخفق (ولا تزال) في إيصال المرأة الى انعتاقها الكامل. على هذه الخلفية، سارت رواية «عشيق الليدي...» لترسم علاقة عقيمة ومضنية ومحبطة بين رجل أرستقراطي مقعد وزوجته. ورسم لورانس الأرستقراطي في صورة العاجز جنسياً، فلا يستطيع الوصول الى نشوة الجسد، مع ما يعنيه من تحرّر إنسانياً، خصوصاً بالنسبة الى زوجته التي يبقى جسدها حبيس أشواق لا تُلبّى، كما تبقى حريتها أسيرة قيود الأرستقراطية الجامدة. إنها ترسيمة الخصاء جنسياً بالنسبة الى الرجل والتحرّق الشبق والمُحبط عند المرأة. وفي تلك الترسيمة، لا يعود شلل الأرستقراطي سوى مسألة شكلية. وركّز كثير من نقاش رواية «عشيق الليدي...» واقتباساتها على ترسيمة خصاء الذكر باعتباره موازياً للسقوط والفشل للأرستقراطية، والإحباط الجنسي عند المرأة بما يحمله من معنى عدم قدرتها على الوصول بجسدها واشتهاءاتها وإنسانيتها الى التحرر والانعتاق. ويستكمل صراع الأرستقراطية مع الفئات الصاعدة، بأن تجد الليدي تشاترلي ملاذاً لشهواتها عند حطّاب مهمش، يعمل عند السيّد الأرستقراطي. وتأخذ هذه العلاقة التي ترفضها القيم الاجتماعية السائدة، حياتها في الخفاء لتأخذ طرفيها الى أقصى الأمدية. ويصبح الحطاب مالكاً فعلياً لجسد الليدي تشاترلي وعواطفها، ما يجعل علاقتها مع الزوج الأرستقراطي رياء مفرطاً وعذاباً ممزقاً ويومياً. ولا يحلّ الصراع مع اكتساب الزوج بعضاً من قوة الجسد، لأن عواطف الزوجة وأشواقها باتت في مكان آخر. واستطراداً، وُجد من يأخذ على لورانس ذكورية من نوع ما، إذ تبدو المرأة وكأنها موضع تنازع بين رجال، فتصبح جائزة للذكر المنتصر. حضرت «عشيق الليدي...» الى مهرجان «البستان» وجمهوره غير البعيد عن الأرستقراطية، في عرض حمل اسم «كونستانس»، قدّم في حفلتين أخرهما في 26 شباط (فبراير) الجاري. وقُدّمت في رؤية مصمم الرقص جوليان لِستل، وهو خريج مدرسة الباليه في «أوبرا باريس الوطنية». وفي 1989، نال أولى جوائزه من معهد الكونسرفاتوار العالي في باريس. وتألّفت الفرقة التي قدمتها من اربعة رجال مثّلوا شخصيتي الأرستقراطي والحطاب) واربعة نساء جسّدن شخصية الليدي تشاترلي بوجوهها المتنوعة، والمتصارعة أحياناً والممزقة دوماً. واستهل العرض على رقص يركز على الأيدي وتموجاتها وحِدّة حركاتها، ورافقت ذلك موسيقى للمؤلف فيليب غلاس اعتمدت على نغمات قليلة، وعلى صراع بين الفيولن والتشيللو من جهة، والأوبو من جهة ثانية. وعندما تصل الليدي تشاترلي الى خيارها باللجوء الى جسد الحطاب (ثم الى نفسه ايضاً) تشتعل خلفية المسرح باللون الأحمر، في حين يهيمن على الأجواء العاطفية عزف البيانو المنفرد، بخيارات حادة بين النوتات، ما يُذكر بأجواء «سوناتا ضوء القمر» لبيتهوفن. وتصل المسرحية الى ذروتها، عند يمتلئ المسرح بأجساد الراقصين الثمانية، وتعزف الموسيقى من الآلات كافة، بما فيها الطبول التي تدخل للمرة الأولى في هذا المشهد. ومع تركيز الراقصين والراقصات (جاؤوا من فرقة مرسيليا الوطنية للباليه وأوبرا باريس)، على حركات الأيدي، بدا الجمع وكأنه في رقصة القبائل. ومع النشيد العالي، يصبح الجو مشحوناً بالصراع الضخم بين هيمنة الأرستقراطية وادعاءاتها الكاذبة وإحباطاتها، وبين الساعين الى الامتلاء إنسانياً والانعتاق بالجسد والأشواق. بعد هذه الذروة العالية، يأتي مشهد كرره معظم من اقتبسوا «عشيق الليدي...»، إنه لقاء الكوخ بين الحطاب والليدي. وقُدّم في جرأة سمحت بها مدرسة الباليه المعاصر، على رغم ان لِستل وعرضه أقرب الى النيوكلاسيكية، وهي مدرسة ظهرت مع تحوّل البالية المعاصر من ثقافة بديلة ومعارضة، الى تيار في قلب الثقافة السائدة، ما سمح له بأخذ أساليب نمطية وكلاسيكية كثيرة. ولا ينفتح أفق للتحرر بالنسبة الى المرأة التي تبقى في تمزّقاتها وأسر الذكر لها، لكن عمقاً آخر ينفتح في خلفية المسرح، كأنما نُقل صراع الحرية الى أفق جديد. يجدر القول أن عرض «كونستانس»، سبقه أداء راقص لثلاث أوبرات إيطالية (لفرانشيسكو سيليا وغيتانو دونزيتي وجياكومو بوسيني)، ذلك أن مهرجان «البستان» كُرّس هذا العام لتكريم الموسيقى الإيطالية. وقدّمت العروض الثلاثة براقصين من الجنس نفسه (رجلين في أوبرتين، ثم امرأتين في أوبرا ثالثة)، ما لم يخلُ من الجرأة، وكذلك بدا أشد ميلاً للأخذ بأساليب الباليه المعاصر.