لم يكن هناك – في عصرنا الحديث – من منح الظاهرة الروحية في الإسلام من فيوضاته واستغراقه وتأملاته وانهماكه النفسي وحضوره الذهني بكل ما حمل من شرارات الوعي وطاقاته مثلما حدث مع الشاعر والفيلسوف الإسلامي محمد إقبال، الذي خاض محاولات دؤوبة آملاً في استكشاف بصيص من إشراقاتها مستلهماً كل الدلالات الكونية الباعثة على التساؤل والتفسير والتعليل، ليس باعتماد جدليات المنطق المجرد، بل مستنداً على أسس منطق روحي يمقت المادية بأفاقها الضيقة وبركائزها المبهوتة من أسباب ومسببات ومقدمات ونتائج ومثيرات واستجابات، مرتقياً فوق السببية ذاتها إلى عوالم أرحب تحلق فيها ملكات النفس وموسيقى الأبد وملاحم السرمدية. ولعل إبداعات إقبال ستظل متألقة بما قدم من أنموذج فكري عقائدي صوفي شعري رائد متميز إلى مدى لا يطال. وكانت روح الثقافة الإسلامية هي جوهر مشروع إقبال بكل ما حوت من نفائس وذخائر كأطروحة تقدمية يمكن أن تعصم الإنسانية المعاصرة من ويلات التقدم السلبي وقشور التحضر الزائف وعصمة مسيرة العلم من الإصرار في المضي نحو تناقضات ربما لا تتفق بحال مع طبيعة العلم ذاته، بل إنها تعد مفسدة للطابع الإنساني في نقائه وفطرته!! ولقد تجلت محاور مشروع إقبال لا سيما في مخطوطه «روح الثقافة الإسلامية» في دفاعاته الرائدة عن العالمية الإسلامية في التواجه العاصف مع كافة النزعات القومية العنصرية وأن للمعرفة مصادر ثلاثة هي التجربة الجوانية والطبيعة والتاريخ وهو ما تتجلى معه روح الإسلام بسموها العلوي وكيف أن الشهادة في الإسلام قد خلعت عن قوى الطبيعة كلها صفات الألوهية تلك الصفات التي أضفتها عليها الثقافات السابقة على الإسلام، وأيضا كيف أن الأديان والثقافات قبل الإسلام لم ترتفع إلى مستوى الإدراك الكامل لفكرة الإنسانية كوحدة عضوية بينما وحدة الإنسانية تعد عاملاً حياً في حياة المسلم، من ثم فالمسلم وحده هو الذي يمكنه النظر إلى التاريخ كحركة جماعية متواصلة وكتطور حتمي حقيقي في المد الزمني. ولقد مثل الإسلام ثورة فكرية كبرى ضد الفلسفة الإغريقية، إذ أن الروح القرآنية كانت في أساسها متعارضة كلية مع الفلسفة القديمة، ولقد فشلت محاولات فهم القرآن في ضوء تلك الفلسفات إذ تميل هذه الروح إلى ما هو واقعي ملموس بينما لا تعبر تلك الفلسفات دوائر التأمل والتنظير إغفالا للواقع. ويعتبر إقبال – وفي مصداقية عليا تتسق ومساحة الشفافية الروحية - أن ميلاد الإسلام كان ميلاد للعقل الاستدلالي من ثم ففي الإسلام تبلغ النبوة كمالها باكتشافها لضرورة وضع نهاية لمسيرة النبوات بحيث تكون النبوة الخاتمة، ولقد كان إبطال الإسلام للكهنوت والملكية الوراثية ودعوة القرآن المستمرة لإعمال العقل وممارسة التجارب واعتراك الواقع والتأكيد على النظر في الكون والتاريخ كمصادر للمعرفة الإنسانية وكلها جوانب وزوايا مختلفة لفكرة واحدة جديدة جاء بها الإسلام وهي ختام النبوة وهي فكرة في محتواها لا تعني توقف التجربة الصوفية وجمودها، إذ أن القرآن يعتبر الأنفس والآفاق مصادر حيوية للمعرفة على اختلاف تنويعاتها ومناحيها. ويتعرض إقبال للفرق السيكولوجي بين الوعي النبوي والوعي الصوفي، فالصوفي لا يريد مطلقاً أن يرجع من منازل السكينة التي ذاقها في تجربة التوحد ومقام الشهود وحتى لو أنه عاد، فعودته تلك لا تعني الكثير بالنسبة للبشرية خلافاً لعودة النبي التي هي عودة خلاقة مبدعة، إذ أنه يعود لكي يقتحم الزمن قاصداً التحكم في قوى التاريخ وتكريس عالم جديد من المثل العليا.. إنها يقظة عارمة لقواه النفسية الجوانية. ولعل أبرز خصائص شخصية النبي أنه الكائن المتناهي الذي يغوص إلى أعماق حياته الروحية اللانهائية حيث يلتقي من فيض الوحي الإلهي لا ليبقى هناك متأملاً وإنما ليطفو مرة أخرى صاعداً إلى أعلى بقوة دافعة جديدة، وعلى ذلك فنبي الإسلام يقف ما بين العالم القديم والحديث فهو من ناحية مصدر رسالته يعتبر منتمياً للعالم القديم، أما من ناحية روح رسالته فيعتبر منتمياً إلى العالم الحديث. ويقدم إقبال - في إفاضة - العديد من الشروح نافياً أن تقود فكرة انتهاء النبوة إلى أن المصير النهائي للحياة هو إحلال العقل نهائياً محل العاطفة والشعور فهو شيء غير ممكن وغير مرغوب، من ثم تتمثل القيمة العقلية الحقيقية للفكرة في كونها تتجه بنا إلى خلق موقف نقدي من التجربة الصوفية إذ تجعلنا نعتقد أن كل سلطة شخصية تتدعي أن لها أصلاً فوق الطبيعة قد انتهى عهده من تاريخ البشرية. ومثل هذا الاعتقاد في حد ذاته هو قوة نفسية تكبح ظهور مثل هذه السلطة ونموها فضلاً عن أن هذه الفكرة أنها تفتح آفاقاً جديدة للمعرفة في مجال التجربة الجوانية للإنسان. وحول الإشكالية الفكرية الكبرى يطرح «إقبال» منظورات إسلامية حول التركيبة الأزلية للكون في إطار بعدان هما الزمان والمكان، مؤكداً أن الكون باعتباره مجموعة من الأشياء المتناهية يعتبر الزمن بالنسبة إليه سلسلة من لحظات تتباعد بعضها عن بعض، من ثم يصبح الزمن عدماً لا تأثير له، ومثل هذه الرؤية للكون لا تؤدي بالعقل المفكر إلى أية نتيجة والتفكير في وضع حد للمكان والزمان المدركين حسياً يجعل العقل يترنح حائراً، إذ أن المتناهي بوصفه متناهياً هو صنم يعوق حركة العقل أو أنه لكي يجتاز العقل حدود المتناهي فعليه أن يتغلب على فكرة العاقب الزمني وعلى فكرة الفراغ البحت للمكان المحسوس، وعلى ذلك يجب استحضار فكرة أن ألفاظ القرب والاتصال والانفصال المتبادل والتي تنطبق على الأجسام المادية لا تنطبق على الذات الإلهية، فالحياة الإلهية تتصل بالكون كله على غرار اتصال الروح بالجسد، فالروح لا هي داخل الجسد ولا هي خارجه ولا هي قريبة منه ولا هي منفصلة عنه، ومع ذلك فإن اتصالها بكل ذرة في الجسد هو أمر حقيقي، لكن من المستحيل إدراك هذا الاتصال إلا بافتراض نوع من المكان يتواءم مع رقة الروح ودقتها. وعلى كل ذلك كيف استلهم العالم الإسلامي تلك التجربة الروحية للفيلسوف إقبال عاملاً على توظيفها في تكريس الطبع المتميز للشرق العربي الإسلامي عن ذلك الغرب المادي؟ وهل يمثل الجانب الروحي الآن بعداً مؤثراً في حياة العالم الإسلامي؟ أم أن هذا العالم يتقوقع في نقطة ما بين الروحي والمادي؟ أم أنه قد خرج عن أطوار هذه وتلك فلم تصر له أخص خصائصه القديمة؟ وهل استطعنا إنتاج دراسات مقارنة عن مستوى الأداء الفكري والعلمي للدراسات الروحية في الغرب لنستكشف مدى عمق ما يذخر به التراث الإسلامي من تلك الدراسات؟ وهل استوقفتنا تلك التجارب الكونية المروعة التي ينهض بها الغرب الآن ليستوثق من صحة المقدمات العلمية عن نشأة الكون؟ أم إننا اكتفينا بالنتائج القرآنية حول تلك القضية من دون أن نعي مقدماتها؟! إن عالمنا الإسلامي وفي لحظاته هذه ليس في حاجة قدرة حاجته إلى مشروع إحيائي لبعث روح الثقافة والفكر والعقيدة والحداثة ويكون هو المشروع التكاملي لروح الاستنارة الغائبة عن طابع العقل الإسلامي والتي حصد الإسلام جرائرها طويلاً، فكانت أبسط الانعكاسات هو تقوقع التجربة الدينية عن أن تتحول إلى قوى عالمية حية ملهمة!! * كاتب مصري