من التفسير البصري للأشياء تجيء صور أغلفة الروايات مفتاحاً تأويلياً للخطاب. وعبر الرؤى التشكيلية والرسوم والرموز تنكشف أكثر الدلالات النفسية والاجتماعية والثقافية التي تفسرها تلكم الإشارات والرموز والعلامات. ما بين البصري والسردي تكتمل العلاقة الروحية بين جنس أدبي وآخر فني تجمع بينهما صورة الغلاف، وذلك بصفتها عتبة سيميائية لها من الرؤى الفلسفية والجمالية والمعرفية ما للسرد الروائي من ذلك. إنها بمثابة نصوص تنفتح على آفاق شاسعة من القراءة والتأويل. إن مصافحة القارئ لأي نوع من الكتب لا تكون إلا مع الغلاف، هذا الحيّز الإشهاري الذي من خلاله تبدأ الرؤى البصرية في التشكّل، وتبدأ معه أيضاً الاحتمالات القرائية الأولى للتصوّرات المبدئية لمضمون النص الداخلي. وعبر الغلاف تتشكل الجماليات لنص الصورة، تلك الرؤية الجمالية التي صاغها فنان الصورة/ اللوحة أو صاغها مُصمم الغلاف. وهي مع ذلك نصوص بصرية من شأنها أن تفضي بالمتلقي إلى قراءة بصرية لا تنفصل حقيقتها عن الأيقونات الأخرى المصاحبة والمتعلقة بطبيعة العنوان واسم المؤلف ودار النشر وبنوع الجنس الأدبي ومن ثم باللون والحجم والشكل وبنط الخط، وبكل ما له فضاء بصري تصيغ دلالته ورمزيته مساحة الغلاف. وكما جرت العادة أن البداية تكون مع صورة الغلاف، لأن الرواية مثلاً لا تبدأ أحداثها ولغتها من الفصل الأول، بقدر ما تبدأ ملامحها وأحداثها من غلاف الرواية، فالغلاف هو العتبة الرئيسة للولوج إلى عوالم السرد الداخلية. وهذه العوالم السيميائية لا تختلف رؤية وتأويلاً عما ذهب إليه الناقد (أمبرتو إيكو) وكذلك (روبرت شولز)، التي نفهم من خلالها الغايات المقصودة وغير المقصودة من تشكل النص السردي ككل، ونفهم كذلك الدلالة الحقيقية والمجازية في آن واحد، لأن في الشكل البصري المرسوم تتشكل الرؤى الذهنية واللغة المتخيلة، والذي تحاول أن تثيره العبارات اللغوية والأشكال البصرية معاً، لتتكون لدى المتلقي حواس التمييز بين الأنواع المختلفة للصورة في علاقاتها بالواقع الاجتماعي والنفسي والثقافي وفي علاقاتها الأخرى المرتبطة بالرمزي والأسطوري والإيحائي. وتبدو أهمية الغلاف البصري (الصورة) في الرواية النسوية من خلال طرحها للتساؤلات، التي من بينها، على سبيل المثال: هل هناك غلاف أنثوي/ نسوي خاص يسم الروايات النسائية السعودية بالهوية الأنثوية؟ وهل حرصت الروائيات مثلاً على أن تكون صورة الغلاف معنيةً بخطابهن الأنثوي وبقضيتهن النسوية؟ وهل هناك إعداد مسبق ومُتقن لغلاف معيّن من فنانة تشكيلية لتكمل ما كتبته الروائية أم أن الأمر متروك لتصميمات واختيارات دور النشر؟ وعبر هذه التساؤلات وغيرها نستطيع أن نطرح شيئاً من ذلك عبر أمثلة مختارة كي تجيب لنا ولو من بعيد عن تلكم الأسئلة والرؤى. لأن القيمة الكبرى التي تقوم عليها الكتابات النسوية تجيء من خلال طريقتهن السردية والبصرية معاً في رسم الخطاب وتمثل دوره المعلن والضمني، أي أن يكون الغلاف مثلاً هدفاً أنثوياً، يحمل في طيّاته ملامح الحرية والجرأة وثقافة الجسد مع تغييب واضح وصريح للسلطة الذكورية المهيمنة، وألا يكون الغلاف مجرد إشارة رمزية عابرة لصورة عابرة لا صلة لها بالمحتوى/ المضمون السردي، وليست لها أية علاقة بالخطاب والقضية النسوية المتعلقة بهوية الكاتبة. يبرهن غلاف رواية «خاتم» لرجاء عالم في شكله البصري عبر الشكل المرسوم على الخطاب الأنثوي وذلك من خلال رسمه هيئة جسد أنثوي من خلال وجود اللباس وغياب الجسد حقيقة. فالشخصية الأنثوية "خاتم" بطلة الرواية تظهر من خلال الغلاف عبر رؤية شبحية تهيمن عليها لغة عدم الوضوح، إنها أشبه بحقيقة الجسد المزدوج للشخصية، لأن هذا النوع من القماش الذي تظهره رسمة الغلاف هو لباس أنثوي، وهذا اللباس مرتبط بالتراث العربي، إذ كانت النسوة يلبسنه في منطقة الحجاز إبان العهد العثماني، والمثير للدهشة أن هذا العصر العثماني هو الزمن السردي الذي تحيك أحداثه الرواية. وفي أغلفة أخرى للروائية نفسها، تجيء كائنات غريبة وعجيبة أشبه ما تكون بكائنات ممسوخة تجمع ما بين الآدمي والحيواني، وهو ما يمكن أن نجده في رسوم أغلفة روايات «سيدي وحدانه» و«مسرى يا رقيب» و«حُبّى»، التي جميعها أخذت خطاً بصرياً مشابهاً من حيث الفكرة والمضمون البصري. إن اتحاد وتعاون الروائية رجاء عالم مع أختها الفنانة شادية عالم – في رسم معظم أغلفتها - ساعد كثيراً على تشكّل الخطاب الأنثوي بينهما وأدى إلى تضافر اللغة البصرية والسردية معاً. وفي الطبعة الثالثة لغلاف مختلف عن الطبعة الأولى لرواية «هند والعسكر» لبدرية البشر، تجيء صورة الغلاف عبارة عن رسمة لفتاة حاسرة شعر الرأس بملبس لا صلة له بثقافة ومجتمع الشخصية داخل الرواية، ويطغى اللون الأحمر بدرجاته على أجواء الغلاف ليعطي صورة الإغراء والإغواء، وهذا الغلاف يعارض الغلاف في طبعته الأولى، الذي برزت فيه صور لنساء محجبات لابسات العباءة. وفي الطبعتين الثانية والثالثة لرواية «لم أعد أبكي» لزينب حفني، تُظهر صورة الغلاف امرأة جالسة بطريقة كئيبة، تبدو من بعيد، واضعة يديها على وجهها، مستسلمة للظلام المهيمن. وهذه الصورة التي ظهرت في الطبعتين الأخيرتين لم تكن ذات اهتمام ملحوظ في الطبعة الأولى لهذه الرواية، التي أظهرت رسمة فقط لصورة العين. ويجيء اهتمام الروائية زينب حفني بالخطاب الأنثوي في أغلفة رواياتها واضحاً أيضاً في روايتها الأخيرة «وسادة لحبك» الصادرة في 2011، إذ جاءت صورة الغلاف لامرأة واقعية كان اللون الأسود مهيمناً مع لون أصفر للخط كنوع من السوداوية والإحساس بالكآبة وتشتت المصير، كما جاءت كلمة جنس «رواية» وشماً بارزاً على كتفها اليمنى. وهذا التضارب والاختلاف الذي أصاب صور بعض الأغلفة وعمِلَ على تشتتها ما بين طبعة أولى وطبعة ثانية وثالثة أخرى - والذي يتضح في عدم حفاظها وبقائها على غلاف واحد - ساعدَ على اضطراب الخطاب. وهو ما نجده في معظم تلكم الروايات، وهذا الاختلاف يمثل تشتيتاً بصرياً لحقيقته النصية، لأن تغيير صورة الغلاف هو أشبه بتغيير داخلي لمضمون نص الرواية، واختلاف آخر لأفق التلقي وفلسفته الجمالية. * ناقد وفنان تشكيلي سعودي.