ليس الرابط بين النيازك الآتية من الكون السحيق من جهة، وما يمتلكه البشر من أسلحة قويّة كالصواريخ والقنابل الذريّة، بالأمر البعيد من العقول، خصوصاً من صُنّاع الخيال العلمي. ولعل النيزك الذي ضرب روسيا في غرّة الشتاء الفائت، حرّك مخاوف عميقة، وكذلك ذكريات عن الخيال العلمي في هذا الشأن. ففي عام 1978، عندما كانت الحرب الباردة في ذروتها، أطلقت هوليوود فيلم «نيزك» (Meteor)، بطولة شون كونوري والراحلة ناتالي وود. ويتخيّل الفيلم دخول النيزك «أورفيوس» الذي يزيد قطره عن 8 كيلومترات، في مسار تصادمي مع الكرة الأرضية، ما يهدد بفنائها في حال ارتطامه بها. يتذكر أصحاب القرار عالِماً متمرّداً، أدى دوره كونوري، طالما طالب بوضع منظومة صاروخية في الفضاء للدفاع عن الأرض. ويقود هذا المتمرد هجوماً استباقياً لتدمير النيزك، باستعمال صواريخ نوويّة وضعتها في الفضاء أميركا وروسيا، من دون أن تُعلنا عنها. ربما حضر شيء من هذا الخيال في شباط (فبراير) الفائت إلى روسيا المنشغِلَة في السنوات الأخيرة بجهود تعزيز دفاعاتها الجوية لمواجهة خطر الصواريخ الغربية على أراضيها، إذ تتوقع أن الهجوم سيأتيها من الفضاء الخارجي. إذاً، بدا المشهد في 15 شباط أشبه ما يكون بأفلام الخيال العلمي التي طالما تحدّثت عن كوارث تقع بسبب غزو فضائي تقوده مخلوقات غريبة الشكل، أو ربما بأثر قدوم أجرام سماوية ترتطم بالأرض فتبيدها. لم تقع الكارثة هذه المرّة. سقط نيزك «تشيباركول» على بحيرة بات يحمل اسمها، في إقليم الأورال الروسي الكبير، على بعد عشرات الكيلومترات من منشآت نووية وكيماوية حسّاسة. لكن سكان منطقة «تشيليابنسك» جرّبوا للمرّة الأولى في حياتهم، حال الذُعر التي شاهدوها في أفلام هوليوود مراراً، عندما هطلت أمطار ثقيلة محمّلة بغبار فضائي وشظايا نيزكيّة فوق مدنهم. وأشار تقرير خبراء «الوكالة الأميركية للطيران والفضاء» («ناسا») بعد إعادة احتساب مؤشّرات الجسم الفضائي، إلى أن الانفجار الذي نتج من سقوطه تزيد شدّته على 0.5 ميغاطن، وأنه يفوق قوة انفجار القنبلة النوويّة الأولى التي أُلقيت على مدينة هيروشيما اليابانية في أواخر الحرب العالمية الثانية، بقرابة 30 ضعفاً. وتعني هذه الأرقام أن الصدفة وحدها أنقذت روسيا من أسوأ كارثة كان يمكن أن تشهدها البشرية في القرن الحادي والعشرين، إذ كان يمكن نيزك «تشيباركول» الذي بلغ قطره وفق المعطيات النهائية قرابة 17 متراً ووصل وزنه إلى قرابة 10 آلاف طن، أن يدمر مُدناً عدّة، لو أنه سقط على اليابسة. لكن الأهم من كل ذلك أن نيزك «تشيباركول» دفع إلى فتح الباب لمناقشة ضرورة بناء منظومات دفاع فضائية قادرة على مواجهة حوادث مماثلة. منظومة لمواجهة غزو فضائي أظهر سقوط النيزك على منطقة الأورال، مدى هشاشة قدرات البشر في مواجهة التحديّات الآتية من الفضاء الخارجي. وعلى رغم أن هذه ليست المرّة الأولى لهذا النوع من الحوادث، إلا أن الصدمة كانت عنيفة في الأوساط العلمية لأنها فشلت في تحديد مسار الجرم الفضائي والتنبؤ بموعد سقوطه ومكانه. وسرعان ما ظهرت دعوات في روسيا لأخذ العبر والتعامل بجديّة مع خطر ربما لم يكن موضوعاً على جدول أعمال المؤسستين العلميّة والعسكريّة. واعتبر رئيس الوزراء الروسي ديمتري مدفيديف أن سقوط النيزك دليل على أن «كوكبنا ليس في مأمن»، ولاحظ أن العالم ناقش المشكلات الاقتصادية بحماسة ويتنافس في بناء أنظمة دفاع مختلفة لمواجهة أخطار الحروب على الأرض، لكنه لا يولي اهتماماً كافياً لمواجهة تحديات فضائية كبرى. ولا تبدو عبارات مدفيديف ناتجة من تأثير وقتي للحدث. فسرعان ما تتالت ردود أفعال الأوساط العلميّة والسياسية في روسيا. وأوضح وزير الطوارئ الروسي فلاديمير بوتشكوف أن تعزيز كل أنظمة الرصد والتنبؤ، بات أولوية ملحة. كما أعلنت «أكاديمية العلوم الروسيّة» أنها بصدد تقديم توصيات من أجل تنفيذ عمليات لتعزيز أنظمة رصد الفضاء. ولم يقتصر حديث الأوساط الروسية على عمليات الرصد في محيط الكرة الأرضية، بل تعداها إلى الإعلان عن مشروع بدأ العمل فيه، يهدف إلى إنشاء نظام دفاعي متكامل يقوم بالرصد والتنبؤ كما يكون قادراً على «تحييد» أهداف فضائية، إذا شكّلت خطراً على الأرض. بعبارة أخرى يدور الحديث، وفق اقتراح قدمه نائب رئيس الوزراء لشؤون الدفاع ديمتري روغوزين، عن شبكة رصد ومراقبة جوية مرتبطة بدرع صاروخية قادرة على ضرب أهداف فضائية قبل وصولها إلى محيط الأرض. وعلى رغم أن الفكرة تبدو طموحة جداً لأن تكاليفها باهظة كما أنها تتجاوز قدرات بلد بمفرده وتحتاج إلى تنسيق وتعاون دولي كما يقول خبراء، إلا أن النقاش حولها بلغ مستويات جديّة عبر الحديث عن الشروع بوضع مشروع قانون ربما ناقشه البرلمان الروسي ال «دوما» قريباً. ويشير علماء إلى أن روسيا ما زالت متأخرة جداً عن الولاياتالمتحدة في هذا المجال، بل يشكّك بعضهم في قدرتها على تقليص الفجوة بين البلدين. في الوقت ذاته، يدعم هؤلاء فكرة تعزيز قدرات روسيا في مواجهة خطر محتمل من الفضاء. ووفق أوليغ مالكوف مدير قسم فيزياء المنظومات الفلكية في «المعهد الروسي لعلوم الفلك»، من الضروري لروسيا صناعة تقنيات تمكّنها من الحصول على معرفة أكثر عمقاً عن حال الفضاء القريب من الأرض. وفي مقابلة مع قناة «روسيا اليوم»، قال: «لا نعرف جيداً المساحة القريبة من الأرض. ولا بد لنا من عمل جبار في هذا الاتجاه. وفي ما يخصّ النيزك الذي سقط على «تشيليابينسك»، نعرف 10 في المئة من حال مثل هذه النيازك وأوضاعها في الفضاء. وهذا يعني أن مستوى معرفتنا يجب أن يتضاعف بمقدار عشرة أضعاف عن حاله حاضراً». مواصلة تصوير الفضاء أوضح العالم الروسي مالكوف تصوّره عما هو مطلوب في رصد الفضاء، مشيراً إلى أن ملاحظة وجود نيزك ما في الفضاء وتحديد اتجاه حركته، يتطلبان تصوير جزء من السماء في شكل متواصل وبفواصل زمنية متكرّرة، لإجراء مقارنات بين الصور، وتحديد النقاط أو الأجرام عندما تغيّر أمكنتها. وأوضح مالكوف أنه «عندما يتحرك جرم ما، يصبح نيزكاً محتملاً لا بد من اكتشافه وتحليله وتحديد مداره وحساب إمكانات أن يغير مكانه في الفضاء مستقبلاً، فيتقاطع مداره مع مدار الأرض». لكنه أشار إلى مشكلة أخرى تواجه العلماء تتلخص في أنهم لا يعلمون ما هو الجزء السماوي الذي يجب تصويره وتحليله. واستنتج أن من الضروري إجراء عمليات مسح وتصوير مستمرّة لكل أجزاء السماء القريبة نسبيّاً من الأرض، مشيراً إلى أن الأجهزة لمثل هذه العمليات موجودة حاضراً في الولاياتالمتحدة وحدها. في المقابل، أشار مالكوف إلى المطلوب لمواجهة كوارث الفضاء بجدّية، هو امتلاك وسائل مراقبة ترابط في الفضاء الخارجي، وهو أمر صعب ومعقد ومُكلِف تماماً. ولكن مالكوف اعتبر هذا الأمر ضرورة مستقبلية، لأن أجهزة الرصد الحاليّة، فشلت في تحديد مسار النيزك أو التنبؤ بمكان سقوطه، بسبب صغر حجمه نسبيّاً. وتشير تقديرات مالكوف إلى مستوى الخطر الذي يهدّد البشر نتيجة سقوط أجرام سماوية. «عندما يضرب الأرض نيزك قطره 20 متراً، فلربما هلكت مدينة كبيرة بالكامل. أما النيازك الأكبر حجماً، فبإمكانها تدمير بلد أوروبي بالكامل. واذا سقط نيزك من ذلك النوع على المحيط، فلربما يتسبب في حدوث تسونامي مُدمّر. أما النيازك التي يبلغ قطرها أكثر من مئة متر، فإن سقوطُها يتسبّب بكارثةً قارية. ربما أن نيزكاً منها أدى إلى انقراض الديناصور».