بين العزلة والانتظار، يبني صموئيل بيكيت فضاء مسرحيته المعروفة «نهاية اللعبة» (منشورات الجمل، ترجمة الشاعر بول شاوول). فراغ لانهائي يتحكّم بحياة أربع شخصيات، من عائلة واحدة، يعيشون في عزلة واحدة عن العالم. عزلة شبه تامّة توضح معنى العبثية عند بيكيت (1906- 1989)، هو الذي ربط العبث باستحالة التواصل بين الناس حين كتب في بحثه الشهير عن مارسيل بروست: «إنّ محاولة التواصل حيث يستحيل التواصل هي تقليد أخرق وعمل مبتذل ومهزلة قبيحة، وهي أشبه بجنون التحدّث إلى أثاث البيت. لقد أصبح الناس كالجدران بعضهم لبعض». أمّا انتظارهم فهو أيضاً عبثي. إنّه يدلّ على هاجس زمني مجهول، تماماً كما في مسرحية بيكيت الأولى «في انتظار غودو». وهذا ما يوضح مقولة بيكيت نفسه: «في الانتظار، إنما نجرّب مرور الزمن في شكله الأنقى». أبطال المسرحيّة ينتظرون إذاً فَرَجاً لن يأتي، أو ربما تغييراً لن يحصل. لذا، هم يعملون معاً على إنهاء وقتٍ لا ينتهي أصلاً. فيتشارك الأربعة (هام، كلوف، ناغ، نيل) في لعبة يتواجه فيها كلّ اثنان كما يتواجه لاعبا شطرنج في تحدّي نقل الأحجار، لتتحوّل حياة أبطال المسرحية (هام/كلوف من جهة، وناغ/نيل من جهة ثانية) إلى شوط متواصل، رتيب، بلا نهاية. تغيب الأحداث في مسرحية «نهاية اللعبة» مثلما تغيب الحركة وتنعدم اللغة. البداية هي نفسها النهاية، بحيث يفتتح كلوف المسرحية بكلمة «انتهت»: «انتهت، لقد انتهت، ربما على وشك النهاية. (صمت). الحبوب تنضاف إلى الحبوب، حبّة حبّة. وذات يوم، فجأة تُصبح كومة، كومة صغيرة، الكومة المستحيلة». بل إنّ فعل الانتهاء يطلّ من قبل البداية ايضاً، أي من العتبة الأولى أو العنوان «نهاية اللعبة»، مما يشي بجوّ من العدمية والجمود والثبات. وفي المقدّمة الغنية التي كتبها بول شاوول لهذه الترجمة يقول: «إنه مسرح النهايات، وليس مسرح البدايات، مسرح التساقط. وفي مسافة التساقط لا يعود ثمة قياس لتطوّر أو لتفكير، سوى تزامنية التساقط وكلّ شيء، العالم، القامات، الأجساد، التواريخ، الذاكرة...». تراجيدية الحياة تدور الشخصيات الأربع في متاهة مُعتمة ومُقفلة. هي تتخبّط في عالم يسوده الحزن والملل والرتابة. لا شيء يتحرّك، إنما الأشياء كلّها تتكرّر. الأحداث، أو الأصحّ قولاً الفراغ، هو نفسه، اليوميات ذاتها، والأفعال أيضاً. حوارات الشخصيات مكررة، يُعيدونها من غير أن تُفيد بأيّ معنى. هم يتكلمون لكنهم لا يقولون شيئاً. إلا أنّ التكرار يأتي ليُعزّز جوهر المسرح البيكيتي، فنياً وتقنياً. إنهم يُدركون ثباتهم أمام حركية الحياة، لكنهم لا يُحرّكون ساكناً، لأنهم عاجزون أصلاً عن الحركة. هام (أعمى وكسيح)، ناغ ونيل (مقعدان يسكنان في صناديق القمامة)، كلوف (له علّة في ساقيه تمنعه من الجلوس). داخل المكان المغلق، يتعطّل المنبّه أيضاً وينعدم الزمن، فيتوقف العقرب عند ساعة الصفر. «هام: كم الساعة؟/ كلوف: إيّاها كالعادة./ هام: هل نظرت؟/ كلوف: نعم/ هام: وماذا وجدت؟/ كلوف: صفراً»... الأشياء أيضاً تتجمّد، وكذلك الأمطار والآمال. وحده الموت يتحكّم بالحياة: «هام: المنزل كلّه يفوح برائحة الجثة/ كلوف: كل العالم...». في ذاك الفضاء المنعزل، يجتمع شخوص الرواية الأربع. هام، هو الشخصية الصعبة أو المرّة، يُمارس ساديته على والديه (ناغ ونيل) اللذين وضعهما في صندوقي قمامة. يحاولان عبثاً أن يقترب واحدهما من الآخر، فلا يقدران. يثرثران من غير أن يُخبرا أشياء تُذكر. يتركهما ابنهما المتسلّط جائعين، وينهرهما حين يتحدثان بصوت عالٍ، ومن ثم يُقاصص والده عندما يستسلم للحنين ويُكرر الحكاية التي كانت تُضحك زوجته (نيل) ذاتها، مع علمه أنها ما عادت تحبها ولا تلامس شعورها. لكنّ هام العنيف يخاف في الوقت نفسه من الوحدة ولا يتخيّل وجوده من دونهما، بل إنه ينادي أحياناً «أبي، أبي» لكي يستشعر أماناً ضائعاً في مثل هذا المكان «الفارغ». وهو يتسلّط أيضاً على خادمه/ ابنه بالتبنّي، كلوف. يحلم دوماً بالنهاية، نهاية العالم البائس الذي يُحيط به. وفي مقابل سادية هام، يعاني كلوف من مازوشية عميقة بمعنى أنه يستسلم، أو ربما يستلّذ بتعذيب هام له. قد يثور أحياناً، يُفكّر بالخلاص ويُهدّد بالرحيل، لكنه يجد نفسه أضعف من أن ينفصل عن جلاّده. يلعب كلوف (الابن والخادم) دور العين التي لا يرى بها هام «الأعمى»، وهو الوحيد الذي يمكنه أن يتسلّق السلّم ويصوّب المنظار من النافذة إلى عالم خارجي تفوح منه رائحة الخوف والموت. ومع أنه الوحيد من بين شخصيات المسرحية الأربع القادر على المشي والحركة، يبقى كلوف أكثرهم تشاؤماً وإيماناً بالقدرية، حتى يغدو هو الآخر عاجزاً عن التحرّك نحو «خارج» يفكر به ليل نهار. تصوّر حالة البؤس التي يعيشها أبطال بيكيت في مسرحيته هذه بؤس الانسان ووحدته وعجزه عن فهم حياة يعيش فيها من غير أن يتمكّن من التحكّم بسيرورتها، أو حتى إيقاعها. كأنّ الإنسان يولد لينتظر مصيراً محتماً، لا مهرب منه: الموت. من هنا، يُمكن اعتبار «نهاية اللعبة» بمثابة مرآة تعكس الوجودية الإنسانية بعبثيتها وغرائبيتها ومأسويتها. كسر القواعد قد تبدو مسرحية «نهاية اللعبة» غارقة في سوداويتها، لكنّ بيكيت يستخرج من التراجيديا كوميديا ومن قلب الفاجعة طرافة. فيرسم شخصياته البائسة، مستعيراً من السيرك أشياءه وأدواته، ليجعل منهم أشباه مهرجين، يسكن واحدهم سلّة القمامة سارداً ذكرياته ليضحك ويتسلّى، بينما يلتصق الثاني بكرسيه المتحرّك آمراً وناهياً ومعنّفاً من معه. إنهم يمزجون في ثرثراتهم بين الجدّ والهزل، حتى كأنهم يلعبون بالمأساة ويتسلّون بها. ومن أكثر الموضوعات تفاهة وسذاجة وتهريجاً، تنتقل شخصيات بيكيت إلى أكثر موضوعات الحياة عمقاً وتأثيراً في النفوس، من دون أي رابط أو عبارة انتقالية. فبعدما يقدّم ناغ، المسجون في سلة مهملات، مشهداً تهريجياً مبالغاً فيه كأن يحمل قطعة من البسكويت بيده وينظر إليها باعتزاز ويدعو إليها زوجته ونظيرته في المصير المأسوي، يتبدّل الجوّ تماماً ويتحوّل الحوار بينهما إلى ما يُشبه خطبة فلسفية تلمع فيها الأفكار والكلمات المؤثرة. «نيل: لا شيء أكثر إثارة للضحك من التعاسة، أوافقك. لكن-/ ناغ: (مصدوماً) أوه!/ نيل: بلى، بلى، التعاسة هي أكثر ما يضحك في هذا العالم. نضحك منها، نضحك منها بملء قلوبنا، في البداية. لكنها تبقى دائماً كما هي. نعم، تشبه الحكاية الجميلة التي نسمعها باستمرار، نجدها باستمرار جيدة، ولكن من دون أن تُضحكنا...» يثور مسرح بيكيت، الحائز جائزة نوبل عام 1969، على أسس المسرح الكلاسيكي وقواعده، وهذا ما نلحظه في «نهاية اللعبة» بحيث لا تقوم المسرحية على مقدمة ولا عقدة ولا أحداث، إنّما تعتمد على الكلام أو بالأحرى الثرثرة التي تأخذ مكان الفعل. أمّا اللغة التي يتشكّل منها هذا النصّ البيكيتي البديع، فتتمرّد على دورها الأصلي لتمثّل الصمت بدلاً من التعبير، والتقاطع بدلاً من التواصل، والهدم بدلاً من البناء. إنها لغة تُؤثر المحو على الكلام، كونها تتحوّل مع بيكيت من أداة تواصل إلى انفصال يُعمّق عزلة الشخصيات داخل مكانها المُغلق. قد تُشكّل لغة بيكيت وأسلوبه في الكتابة، وتحديداً في مسرحية بهذه الكثافة والتقنية والدرامية، تحدياً أمام أي مترجم، خصوصاً أنّ المفردات تُقال بصيغتها الفجّة أو الخام، فضلاً عن أنّ العبارات تأتي متقطعة، مكثفة، مختزلة، وبتنويعات كثيرة. لكنّ الشاعر والمسرحي والمترجم بول شاوول، الذي سبق أن ترجم واقتبس أعمالاً لموليير وهايز مولرو وأوجين ايونيسكو ومارسيل بانيول وغيرهم، ينقل رائعة بيكيت «نهاية اللعبة» إلى العربية محافظاً على المناخ البيكيتي الخاص وروح النص الأصلي المكتوب بالفرنسية عام 1954. علماً أنّ هذه الترجمة تأتي بعد صدور طبعة ثانية من مسرحية «في انتظار غودو» عن دار الجمل، ترجمة بول شاوول أيضاً. تتألّف «نهاية اللعبة» من فصل واحد يصفه شاوول في مقدمته بأنه «فصل مكثف متوتر، مختزل، شخصياته يحركها بيكيت بمهارة وقدرة ودقة، كما يحرك اللاعب الماهر حجارة الشطرنج، يضبطها بلا استرسال، كما نجد أحياناً في «في انتظار غودو». لا كسور في الإيقاع، أربع شخصيات «عائلية»: الجدّان (ناغ ونيل)، الابن (هام)، الابن أو الخادم (كلوف). واصطلاحاً تُمثّل هذه الشخصيات الثلاث أجيالاً معطوبة بالعاهات الجسدية وغير الجسدية... شخصيات كأنما تُحرّكها قدرية أشبه بالقدرية الأوديبية...». «نهاية اللعبة» هي أكثر من مسرحية. إنها واحدة من روائع الأدب العالمي، إضافة إلى كونها عملاً رائداً في تاريخ المسرح العبثي. وقد تمكن بيكيت أن يتفوّق من خلالها على تحفته المسرحية «في انتظار غودو»، بعدما اعتبرها النقاد أكثر بلورة وقوة ودرامية من مسرحيته الأولى. وتأتي أهمية مثل هذه الترجمات في قدرتها على ترميم فجوة أصابت جسر التواصل بين الثقافات، وفي المساهمة في سدّ حاجة ثقافية إلى الترجمات الأجنبية في مجال الأدب، والمسرح في شكل خاص. وقد أدخل بول شاوول القارئ العربي في صميم مسرح بيكيت عبر ترجمة تميزت بقدرة معرفية ولغوية لافتة، ومقدمة تختزل العالم البيكيتي وخصائصه.