لم يكن ذلك القرن الذي مضى موشكاً أن يطوي القرن التالي له أولى صفحات عقده الأول سوى قرن التحولات الكبرى ، من ثورات وانهيارات وحروب ، وقيام دول سياسية ومراكز تجارية ، وبلدان تقسمها – أو تأكلها – لعنات الاستعجال والعمى أو صور من التعصبات والطائفيات والأصوليات والتطرفات بقدر ما كان ذلك القرن شاهدا على منجزات واختراعات الإنسان على مستويات عدة من صناعات وتطور علوم ومناهج وتقنيات وميديا.. إلا أن بعضاً من – وربما كثير – من الشخصيات الثقافية ظلت تشف حالة الإنسان في خضم تلك التحولات الطاحنة والمروعة والسريعة والبارقة ، فتكشف لنا حالات من الإحباط والوحشة والاغتراب بقدر ما تتحول تلك المشاعر نحو اليأس والجنون والانتحار.. لقد اكتشف كثير أن أهل أحلام النهضة- على مستوى العربي - كانوا مجموعة من الساذجين – ولا يمنع أن كون مثلهم -! وربما استمر الحال عند أبنائهم وأحفادهم برغم تعدد ألوان وأقنعة أفكارهم وإيديولوجياتهم .. لقد كشف الزمن العربي أننا أردنا النهضة والتنوير والحداثة والتقدم..ولكن لم نقرأ لماذا لم نفكر في السؤال المؤجل : لماذا صمتنا على مدى ستة قرون ولم نفعل شيئاً ! "في انتظار غودو" لصموئيل بيكيت ليست مجرد مسرحية اختارها الشاعر والمسرحي بول شاوول ليترجمها ، وقد نشرها قبل هذه الطبعة منذ 15 عاماً ( سلسلة المسرح العالمي – المجلس الوطني / الكويت) ليعاد نشرها من جديد ويضع لها شاوول مقدمة طويلة ( منشورات الجمل ، بغداد –بيروت). إن العبث المجاني والشعور بأزمة الإنسان في هذا القرن يتشارك بها كل البشر ، ولا أظن العرب ، خارج بؤرة هذا الشعور ، ولو لم يكن دائماً ، ولكنه يؤاتي على الدوام! "الانتظار خلق المحطة وشوق السفر جاب الترين " ( الترين : القطار) جملة قذفت بها وردة / فيروز في مسرحية " المحطة 1973" للأخوين الرحباني ، واندلعت حرب لبنان الأهلية وسبقتها ثورات ولحقتها حروب عربية كثيرة. الانتظار صار إدمان شعوب المنطقة ، وما يحدث من جنون وتطرف هو نتيجة فقدان الصبر! من هو بيكيت ؟ صمويل باركلي بيكيت( 1906-1989) ، من مواليد فصل الربيع ، بدبلن- إيرلندا، تفوق في دراسته واهتم بلعبة الكريكيت ، وداوم على مشاهدة الأفلام الأمريكية الصامتة كأفلام شارلي شابلن وبوستر كيتون . بين عامي 1923-1927 التحق بكلية ترينيتي بدبلن وتخصص في الآداب الفرنسية والإيطالية، وبعدها توجه إلى باريس وعمل أستاذاً للغة الإنجليزية بإحدى المدارس هناك، وفي هذه الأثناء تعرف بيكيت على الأديب الأيرلندي الكبير جيمس جويس (1882 - 1941) صاحب رواية (يوليسيس) وأصبح عضواً بارزاً في جماعته الأدبية وصديقاً شخصياً له. عام 1930 كتب بيكيت دراسة عن الروائي الفرنسي مارسيل بروست (1871 - 1922) صاحب رواية البحث عن الزمن المفقود ثم عاد إلى إيرلندا ليقوم بتدريس الفرنسية بكلية ترينيتي لكنه استقال سريعاً. في عام 1933 نشر أول مجموعة قصصية (وخزات أكثر من ركلات) بطلها بيلاكوا ومغامراته. وفي عام 1935 كتب روايته الأولى (مورفي) وبطلها شخصية مضطربة . بعد اقترانه من عازفة البيانو سوزان ديكوفو دوميسنيل عمل بيكيت مراسلاً ومترجماً في فرنسا إبان الحرب العالمية الثانية واشترك في صفوف المقاومة هناك لكن بعد تقدم الألمان واكتشافهم للخلية التي يعمل بها هرب بيكيت وسوزان إلى جنوبفرنسا في بلدة روسيليان وعمل بيكيت مزارعاً، وفي هذا الوقت كتب روايته (وات) التي تدور حول بطل يحمل اسم الرواية يقوم برحلة إلى بيت السيد نوت ذي الشخصية المعقدة ويعمل عنده. عاد بيكيت وسوزان واستقرا في باريس بعد هزيمة الألمان عام 1945. وفي العام التالي كتب روايته (ميرسيه وكاميه) وتدور حول حياة عجوزين يتواعدان للقيام برحلة إلى الريف ، ثم بعد ذلك كتب بيكيت ثلاثيته الروائية الشهيرة (مولوي)(مالوني يموت)(اللامسمى)، كتب الروايات باللغة الفرنسية ثم ترجمها إلى الإنجليزية. في عام 1951 كتب المجموعة القصصية الرائعة (قصص ونصوص من أجل لاشيء)، تم نشر مسرحية (في انتظار جودو) عام 1952 وفي العام اللاحق تم عرض المسرحية في باريس ولاقت نجاحاً باهراً، ومن هذه اللحظة أصبح بيكيت مشهوراً ومعروفاً في كل أنحاء العالم. عام 1954 كتب مسرحية (نهاية اللعبة) حول شخصيات مصابة بالعمى والشلل وتعيش في صناديق القمامة أو مكتوب عليها العمل الدائم دون الحصول على راحة. وفي عام 1958 كتب مسرحية (شريط كراب الأخير) بطلها شخص واحد يستمع إلى مذكراته التي سجلها على شرائط، فهي مسرحية حول العزلة والشيخوخة والعجز النفسي. توجه بيكيت للكتابة الدرامية الإذاعية بين عامي 1956 -1962 فكتب لإذاعة البي بي سي (هيئة الإذاعة البريطانية) أعمالا مهمة ومتميزة مثل (كل الساقطين)، (الجمرات)، (الأيام السعيدة)، ( قل يا جو ). 1963 كتب بيكيت مسرحية باسم (مسرحية) وسيناريو فيلم قصير باسم (فيلم) أخرجه المخرج الذي تخصص في إخراج أفلام تلفزيونية عن أعمال بيكيت (ألان شنايدر) وقام ببطولته النجم الأمريكي (بوستر كيتون)، وتوجه بيكيت إلى أمريكا للمرة الوحيدة في حياته ليشرف على الفيلم الذي حصل على جائزة النقاد في مهرجان فينيسيا عام 1965. حصل بيكيت على جائزة نوبل للأدب 1969 ، ولما سمعت زوجته بالخبر قالت : إنها كارثة، واختفى بيكيت تماماً ولم يذهب لحفل تسليم الجائزة. كتب بعدها ثماني مسرحيات منها( أنفاس 1969 ، الوقت 1975 ،وقع أقدام 1975). واصل الكتابة والنشر خلال الثمانينيات ما بين مسرح (ارتجال أوهايو 1981 ،نكبة 1982 ، ماذا أين ؟ 1983) وتلفزيون ( بيكيت يقدم بيكيت 1988) وقصص قصيرة ( لا زال يحدق 1988)وشعر ( ما الكلمة ؟ 1989) وبعض الروايات القصيرة . برغم اختياره العزلة إلا أنه عاش بين الكتابة وملاقاة أصدقائه في مقهى حتى تعرض لأزمة تنفسية ختمت حياته. من ينتظر غودو ؟ في عام 1947 كتب بيكيت مسرحيته الشهيرة (في انتظار غودو) والمسرحية تدور حول شخصيات معدمة مهمشة ومنعزلة تنتظر شخص يدعى (جودو) ليغير حياتهم نحو الأفضل وبعد فصلين من اللغو والأداء الحركي والحوار غير المتواصل لايأتي جودو أبداً، المسرحية محملة برموز دينية مسيحية هذا غير اعتمادها المكثف على التراث الكلاسيكي الغربي، والمسرحية تعبر بصدق وببشاعة عن حال إنسان مابعد الحرب العالمية الثانية والخواء الذى يعاني منه العالم إلى الآن. تبدأ المسرحية بالستار يرفع. شجرة بلا ورق. ماء طريق ريفية. رجل جالس على الأرض. يدخل رجل آخر المسرح. الرجلان يرتديان ملابس غريبة، قبعتين واسعتين، سترتين سوداوين، بنطلونين مقلمين، الرجل القاعد يحاول أن يخلع حذاءه، استرجون ينادي جوجو، نعرف أن الرجلين افترقا مساء البارحة، وأن استرجون أمضى ليلته في حفرة، ثم ينخرطان في حوار ونعرف أنهما ينتطران شخصاً يدعى غودو، ثم يأتي بوزو ولاكي، الأول سيد والآخر مسود وخادم، وينخرط الجميع في حوارات متشعبة لكن من دون أن يحدث شيء سوى أن صبياً يأتي من قبل غودو ويبلغ استرجون وفلاديمير بأنه لن يتمكن من المجيء هذا المساء وبأنه "سيأتي بالتأكيد غداً". الفصل الثاني فصل انتظار أيضاً، وفيه تتكرر الأحداث: نجد استرجون وفلاديمير يدخلان في حوار خلال انتظارهما غودو، الشجرة العارية اكتست بالأوراق، يأتي بوزو ولاكي لكن الأول صار ضريراً والثاني أضحى أطرش، ولا تتغير علاقتهما. ثم ينخرطان في حوار وفي «أحداث» وتفاصيل: سقوط ومحاولة نهوض فسقوط، لكن لا شيء يحدث. يستأنف بوزو ولاكي رحلتهما، ويأتي الغلام نفسه ويبلغ استرجون وفلاديمير بأن غودو لن يتمكن من المجيء هذا المساء وأنه بالتأكيد سيأتي غداً، ثم يمضي الغلام، الصديقان يحاولان الانتحار، لكن الحبل كان أقصر من أن ينفّذا العملية به، وفي النهاية لا شيء. لا أحد يأتي، ولا ينتحران، ويقرران الرحيل، ويبقيان مكانهما. يقول شاوول في مقدمته البديعة : "عندما كتب بيكيت "في انتظار جودو" (1948)، (حسب ما يروي أصدقاء الكاتب، وحسب ما تستشف من كتاباته)، كان في الثانية والأربعين من عمره. (مواليد 1906). وباكورته المسرحية هذه "المتأخرة" زمنياً، (إن صحت هذه المقاييس)، تجيء بعد ممارسة طويلة قام بها الكاتب مع الرواية والنقد والبحث والقصة القصيرة. إذن جاء بيكيت من الكتابة الروائية الى المسرح. ويروى أن "في انتظار جودو" كانت في الأصل "مقاطع كتابية تتخللها مادة حوارية"، حولها الكاتب الى مسرحية من فصلين ومن خمس شخصيات بعدما وجد فيها أصدقاء له "يعملون في المسرح" مادة غزيرة للمسرح وإذا عدنا الى المناخ السائد في نهاية الأربعينيات وما قبلها وامتداداً الى مطلع القرن، وفي تضاعيفه، نجد أن بيكيت، عاصر صديقه الروائي الإيرلندي الكبير جيمس جويس وتجاربه "اللغوية" في مجال الكتابة الروائية، واطلع جيداً على كافكا وأجوائه "الداخلية" وسارتر و"غثيانه" وكامو و"غريبه" و"كالوغيلا"، وقبل هؤلاء الفريد جاري و"أوبو" وحواليه أداموف في "المناورة الكبرى والمناورة الصغرى"، ومن قبل أرتو و"مسرح القسوة"، ومن ثم يونسكو و"المغنية الصلعاء" و"الدرس"إلخ! من دون أن ننسى السينما وتطورها من الفيلم الصامت "الإيمائي"، الى الفيلم الناطق، بالنماذج الثنائية التي قدمتها منذ شارلي شابلين وحتى ذلك التاريخ، وكذلك مناخات الرواية الجديدة خصوصاً في فرنسا مع ناتالي ساروت وآلان روب غرييه وميشال بوتور". في هذه المناخات "الثقافية" في فرنسا وأوروبا ظهرت "جودو" ولا يمكن فصلها عنها كما يرى شاوول. وإذا كان بيكيت "انفصل" كتابياً عن جيمس جويس من خلال تأكيده عن عجز اللغة، في مقابل إيمان جويس بقوة إمكاناتها اللامحدودة، وإذا كان التقى أو تقاطع والرواية الفرنسية من خلال مقاربات، فإنه الى ذلك شكل مع جماعة المسرح الجديد أداموف كرائد ويونسكو وجان جينيه وجورج شحادة كوكبة ما سمي المسرح الجديد أو المسرح الطليعي، أو مسرح العبث واللامعقول خصوصاً وأن بيكيت كان أصلاً بدأ يكتب الفرنسية، شأنه في ذلك شأن أداموف (أرمني روسي) ويونسكو (روماني) وجورج شحادة (لبناني) المسرح الجديد الذي كتب بالفرنسية وفي فرنسا كان رواده من غير الفرنسيين (بالطبع ما عدا جينيه وفوتييه). وكما يقول بيكيت نفسه "في فعل الانتظار نجرب مرور الزمن في شكله الأنقى" وهنا يأتي دور الكلام: فإزاء العبث الكوني بكل شروخه الإنسانية واللاإنسانية، يصبح الكلام جسراً "وهمياً" لعبور الزمن. وفيروز في شخصية وردة بمسرحية " المحطة "ربما وعدت الناس بالأمل ولم تكن كاذبة . جعلت من الحرامي ( أنطوان كرباج ) قاطع التذاكر ، ولم تقم محطة ولم يأت قطار. إنها مزرعة بطاطس وسرقت نقود الناس! لقد انفصمت وردة بين المسرح والسينما . تعاتبت بعنف بينها وبين نفسها حتى انتهت الشخصية وصورتها إلى قرار اضطراري " وردة تفل ووردة تضل". انتهى الكلام والأمل! ويقول شاوول " لكن أي كلام؟ ليس كلام الملتزمين والأيديولوجيين والحكماء و"الأدباء" والمصلحين والأخلاقيين الذين يرون في "الكلام" فعلاً وتعبيراً عن صيرورة وعن زمن وعن تطور وعن أهداف وعن علاقات وعن فلسفة وتفلسف ومواعظ، لا ليس هذا الكلام، إنه كلام المتفائلين و"المتشائمين" ضمن حدود "معقولة" و"مفهومة" ومدركة "كلام بيكيت هو اللاكلام". "تتكلم لاكي تقول شيئاً كي يتدفق الفراغ، في "الانتظار" الذي لا يأتي، ونعرف أنه لا يأتي، ونستمر فيه. إن شخصية استرجون ( لنتذكر الحرامي في المحطة للأخوين رحباني) ، هي شخصية غريزية مادية، جشعة، تتراوح بين الحاجات المباشرة كالأكل والنوم وكذلك النسيان وبين التفاصيل. انها من "الحثالة" التي ترى كل شيء من خلال حاجاتها الغريزية، وفلاديمير ( أو وردة فيروز) الوجه الآخر المثالية، الحكمة، رصد الانتظار، التذكر، والتمسك بالحوار والحركة. ومن هذه الاجتهادات ان بوزو ( البدوي / فيلمون وهبه) يمثل السلطة الغاشمة، الظالمة، اللاانسانية، الحسية، الاقطاعية، ولاكي ( الزوجة الخائنة / هدى )هو المسود والخادم، والمطيع والنعجة والخروف اي الذي يلعب لعبة الخادم بأصولها ومتطلباتها والبعض رأى ان غودو انمسخ في صورة بورنو مع كل ما أراد أن يرمز اليه . ولكن هل من انتظار ؟