«كنت تحلم انك استيقظت في تمام السابعة، وسط الضباب والرطوبة، عند الفجر وسط الظلمات/ وكنت تنتظر أن يدق على بابك ويدار المفتاح في القفل، لأنك تعرف ان الجلاد في انتظارك/ وربما كنت على قيد الحياة/ وربما كنت قد متّ». تشكل هذه السطور مقطعاً من واحد من أكثر أعمال النصف الأول من القرن العشرين، في مجال كتابة الشعر، غرابة وقوة. ولن يجد القارئ غرابة في هذا الحكم إن نحن سارعنا الى القول إن هذا المقطع انما هو مجتزأ في العمل الشعري الدرامي «سويني مندفعاً في الصراع» الذي كتبه تي. اس. إليوت في العام 1926، لكنه لم ينشره إلا في العام 1932. وهو كتبه، في الأصل على شكل مقطوعات درامية، حتى وإن كان النقد لاحقاً سينظر اليه بصفته قصيدة في أجزاء. ومن المعروف في عالم الدراسات الإليوتية، ان الشاعر الانكليزي/ الأميركي الأصل اليوت، انما استعار عنوان هذا العمل من أحد المقاطع الشعرية لملتون وعنوانه «شمشوم يندفع في الصراع». بيد ان ما كان لدى ملتون تاريخياً تراجيدياً، يصبح لدى اليوت ساخراً معاصراً، ولكن فقط من نمط السخرية التي كان يمكننا ان نلمحها لدى كافكا - قبل اليوت - ولدى صمويل بيكيت - بعد اليوت -. ولكأن «سويني يندفع في الصراع» اتت لتكون الحلقة الضائعة التي تربط يأس كافكا الساخر امام الشرط الانساني، بيأس بيكيت، الساخر أيضاً، أمام الشرط نفسه. ولعل أبرز سؤال يمكن طرحه في هذا الاطار هو كيف أمكن اليوت ان يحمل سوداوية سلفه وتشاؤمية خلفه، مع انه كان يتميز عنهما بإيمان روحي عميق كان يجدر به أن يقيه ما يترتب على السوداوية والتشاؤمية في آن معاً. ان الصورة التي تقدم الينا عبر السطور التي بها افتتحنا هذا الكلام من «سويني يندفع في الصراع»، تبدو كافكاوية خالصة، وقد تكون، مثلاً، أول ما يخطر في بال قارئ اليوت ان هو عاد الى قراءة «المحاكمة» لكافكا... بل ان قدر السخرية السوداء الجامعة بين العملين يبدو كبيراً... غير ان هذا التشابه هنا قد يبدو أقل حجماً من تشابه «سويني يندفع في الصراع» مع العمل الذي سيظهر لبيكيت، بعد هذه بسنوات، أي «في انتظار غودو»، المسرحية التي أسّست لمسرح العبث والهذيان، وأسّست لحداثة النصف الثاني من القرن العشرين في شكل عام. أما بالنسبة الى اليوت، فإنه قال دائماً ان «سويني...» عمل درامي شعري أراد من خلاله «اعادة الاعتبار الى هذا النوع من الكتابة» وهو انما يمت بصلة الى محاولات ويليام باطلر ييتس وأودن وربما ستيروود أيضاً. وأما الباحثون المدققون، فإنهم لن يفوتهم ان يروا في «سويني» تمهيداً لكتابة إليوت مسرحياته الكبرى التالية ولا سيما «حفل الكوكتيل» في انتقال مباشر لديه، من الشعر الى المسرح... من دون أن يتخلى عن موضوعاته الأثيرة. من الواضح ان سويني، كما يقدمه لنا هذا العمل، هو واحد من أولئك الأبطال المضادين Anti-Heros الذين يمتلئ بمثلهم أدب القرن العشرين. انه بطل معاصر وشديد الحداثة، يحمل رسالة قلقة يريد ان «يوصلها الى مخلوقات قلقة مرتبكة مرتجفة غير واعية، لكنها مثيرة للسخرية في الوقت نفسه». انها ليست أكثر من كائنات مجوفة (تذكر مباشرة ب «الرجال الجوف» الذين خصهم اليوت بدورهم، بواحدة من أقوى قصائده)... كائنات نصف حية - نصف ميتة، هي من النمط نفسه الذي سينتمي اليه شخوص مسرحيات بيكيت الجامدون في أرضهم (في «في انتظار غودو» أو في «نهاية اللعبة»، على سبيل المثال). ان شخصيات قصيدة «سويني» ومنها شخصيات كان قد سبق لها، مثل دوريس، ان ظهرت في قصائد أخرى مبكرة لإليوت، هي شخصيات منفية من الحياة داخل الحياة... يخيل اليها انها تنتظر أحداً ما، لكنها ستعرف في نهاية الأمر انها لا تنتظر أحداً... حتى ولا الكائنات الأميركية، مثل كليبشتاين وكروباكر، التي تحاول ان تنقل شيئاً من الحيوية المزيفة الى ذلك العالم الميت، العالم الذي يصرخ سويني وسطه قائلاً: «وهذه الأشجار من حولي، دعوا الجفاف يزحف اليها فتتساقط عنها أوراقها، دعوا الصخور تئن مع اصطخاب الموج المستمر، ومن ورائي فليتحول كل شيء الى قفر... هيا انظرن يا أيتها الفتيات... ارسمن لي شاطئاً قاحلاً ذا كهوف، ملقىً في وسط الأعاصير التي لا تعرف السكون. ارسمن لي الصخور متعرجة يوجهها البحار المكشر عن أنيابه العاوية». والحال ان هذا كله هو المناخ السوداوي العام الذي يقود عملاً، من الغريب ان يكون شاعر قد كتبه وهو يعيش ذروة ايمانه. كما من الغريب لهذا الشاعر نفسه أن يختتمه في مشهد صاخب صارخ تتجمع فيه كل الشخصيات في نهاية الأمر على شكل كورس يحيط بسويني. انه كورس جماعي، لكنه في الوقت نفسه يتألف من أفراد، يعيش كل منهم فردية يصعب عليه ان يعرف ماذا يريد منها... ما يطلق أسئلة الحياة والموت، اسئلة الفراغ والامتلاء... وسط جمع لم يأت الى هنا إلا لكي يفهم، في نهاية الأمر، رسالة سويني الغامضة... الرسالة التي تقول: «الحياة هي الموت، ولادة... تلاقح... وموت، هذا كل ما في الأمر... هذا كل شيء ولا يوجد شيء عداه». والحال ان اليوت، نفسه، يحدثنا عن غايته من هذا العمل وأسلوبه في كتابته، في فصل أخير من كتابه «في جدوى الشعر وفي جدوى النقد»، حيث يقول (في ترجمة ماهر شقيق فريد لأعمال اليوت النقدية الصادرة عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر): «لقد صممت ذات مرة، ووضعت مسودة مشهدين من مسرحية شعرية. وكان هدفي ان أخلق شخصية واحدة تكون حساسيتها وذكاؤها على مستوى أكثر النظارة حساسية وذكاء، وتكون أحاديثها موجهة اليهم بقدر ما هي موجهة الى سائر الشخصيات في المسرحية ، أو بالأحرى تكون موجهة الى هذا الجانب الأخير، المفروض فيه انه مادي حرفي الذهن، عاجز عن الرؤيا، يعي ان الجمهور يسترق السمع اليه. وكان ينبغي ان يكون ثمة تفاهم بين هذا البطل وعدد صغير من النظارة، في حين يشارك بقية النظارة سائر الشخصيات في المسرحية استجابتها. وربما بدا هذا كله متعمداً أكثر مما ينبغي... ولكن على المرء أن يجرب ما وسعه ذلك». ويضيف اليوت، ودائماً في ما يتعلق بهذا العمل: «ان كل شاعر، في ما يخيل إليّ، خليق بأن يرغب في أن يتمكن من الاعتقاد بأن له فائدة اجتماعية مباشرة من نوع ما. ولست أعني بهذا، كما آمل ان أكون قد أوضحت، انه يجمل به أن يتدخل في شؤون عالم اللاهوت، او الواعظ أو عالم الاقتصاد أو عالم الاجتماع (...) او انه يجمل به أن يفعل أي شيء آخر غير كتابة الشعر، الشعر الذي لا يعرف بأي مصطلح آخر دون ذاته... الشعر الذي يخلق به أن يرغب في أن يكون نوعاً من التسلية الشعبية، وأن يتمكن من أن يجتر أفكاره الخاصة من وراء قناع مأسوي أو ملهاوي (...) والمسرح هو خير مكان لهذا»... اذاً، من الواضح هنا ان «سويني يندفع في الصراع» عمل شعري، لكنه يبحث عن وجوده فوق خشبة المسرح، ومن هنا كان من الطبيعي لتوماس ستيرن اليوت (1888 - 1965) الذي ولد أميركياً ومات انكليزياً، بعد ان انتقل من القارة الجديدة الى بريطانيا، واعتبر، ناقداً وشاعراً، من كبار المؤسسين في حداثة القرن العشرين، ان يصف عمله هذا بأنه «مقاطع اريستوفانية، تنتمي، عبر ايقاعات شعرية معينة، الى نوع فريد من التعبيرية، لتعطي صورة ساخرة عن الحياة العقيمة التي تعيشها البروليتاريا» في زمننا. واليوت، الذي ترجم الى العربية عدد كبير من أعماله المسرحية والشعرية، وخصوصاً «الأرض اليباب» و «حفل الكوكتيل» و «أربع رباعيات» و «أغنية حب الى بروفروك»، كان اسمه على كل لسان في الستينات والسبعينات من القرن العشرين، بحيث يبدو غريباً بعض الشيء اليوم انه لم يعد موجوداً في الصف الأول من اهتمامات الحركة الأدبية، النقدية والشعرية. [email protected]