الإثنين 31/12/2012: حفلة صيد انكشاف المجتمعات العربية بفعل الثورات أدى إلى تبلور لغتين تتصارعان في هذا البلد العربي أو ذاك، نقول لغتين، وربما في المستقبل ثقافتين. في مصر، كمثال، يعتمد «الإخوان المسلمون» (ومعهم أطراف التيار الإسلامي) لغةً تزدحم فيها آيات قرآنية وأحاديث نبوية ومأثورات تراثية أياً كان مضمون الكلام، في حين يستخدم المدنيون لغة مألوفة لا تستعين بالقرآن والحديث والمأثور إلاّ إذا كان الموضوع دينياً أو تراثياً. الانقسام اللغوي هذا يستخدمه «الإخوان» ومؤيدوهم أحياناً للإيقاع بمدنيين مثل سمك أعمى في الشبكة، فإذا نجح الاصطياد تصل الأمور إلى دعوى قضائية بحق المدني تتهمه بالإساءة إلى رموز مقدسة، في مقدمها القرآن والحديث. قد يدور النقاش في ناد أو جامعة أو محطة تلفزيونية على قضايا اقتصادية أو قانونية أو سياسية، فيسترسل الإسلاميون في الاستشهاد بالمقدس ويروون أخباراً عن أهل السلف بهدف القياس على عصرنا، من دون أن يجهدوا أنفسهم في المقارنة بين العصرين، لذلك يأتي كلامهم أخلاقياً عمومياً يمنع قبض النقاش على القضية الأساسية لإبداء رأي يعالج ما يعانيه الناس ويستشرف الآتي. بذلك يبدو المدنيون مدفوعين إلى اختيار الجمل والمفردات بدقة أثناء النقاش لئلا يفسر انتقادهم آراء الإسلاميين بأنه انتقاد للشواهد التي يستخدمها هؤلاء. وهي قضية دقيقة، بل قضية حياة أو موت بالنسبة إلى المحاور المدني المهدد بأن يتحول سمكة في شباك المحاور الإسلامي. لا ثقة متبادلة ولا رحمة، لذلك يبدو النقاش عبثياً أو أنه كلام كل طرف على أرضه بعيداً من أرض الطرف الآخر. الثلثاء 1/1/2013: اعتراض هاتفي محطة رأس السنة ولا يولد الإنسان مرة ثانية، تأتيه الضربة من بيت أبيه والنعمة من الغرباء. وحيث لا يعرفه أحد يعرف نفسه جيداً، يكتب حراً ولا تراقبه اللغة ولا الهواء. والكتابة هنا لمجرد التدوين، مثل أن تحفر اسمك على صخرة بعيدة من العمران. محطة لاتصال هاتفي يوقف كتابتي. صديقة سورية معارضة تتصل من باريس. المعايدة، ثم نتداول سريعاً في الأخبار وليس لدينا جديد. نصحتها بالتدرب على الضحك مرة في الأسبوع على الأقل ولمدة ربع ساعة، لأن المأساة مستمرة والأعصاب إلى تلف. يرن هاتفي الآخر. المتصل طبيب لبناني يكتب مقالات سياسية. بعد المعايدة أبلغته بفكرة التدرب على الضحك، فضحك، قال إن ابنة شقيقته افتتحت في بيروت نادياً متخصصاً يقدم تمارين على الضحك. عاودت الاتصال بالصديقة، نصحتها بافتتاح ناد مماثل في باريس، لعل المنفيين، أو الذين نفوا أنفسهم يخففون من الإحباط. قديماً كتب إدوار كار عن «الجيل الخائب» من الروس الحمر في باريس، لا أتمنى لأصدقائي الخيبة، فليسوا أتباعاً لأيّ ستالين، لكن الوضع المأسوي يحتاج الى تدريب على الضحك، على الأقل لمناهضة محمد الماغوط الذي أصدر كتاباً عنوانه «الفرح ليس مهنتي». الأربعاء 2/1/2013: «مولانا» رواية إبراهيم عيسى «مولانا» (دار بلومزبري ومؤسسة قطر للنشر) في اللائحة الطويلة لجائزة «بوكر» هذا العام. واقعية، بما هي شهادة على العنف في المجتمع المصري تحت قشرة حكم حسني مبارك المديد، وفنتازية بما هي تقدم شخصية مولانا، الداعية التلفزيوني، الذكي العارف، العابث قليلاً، والذي يحمل تفاصيل الرواية في عباءته كونه زعيماً موازياً، وهذا الأمر يدفع القيادة، ممثَّلةً بنجل الرئيس، للجوء اليه من أجل حل «مشكلة خطيرة»: شقيق زوجة ابن الرئيس (المرشح للتوريث) يصرّ على التنصر وأن يترك الدين الإسلامي، وهنا تتعدى المسألة الإطار الشخصي أو الفقهي إلى أن تصبح فضيحة سياسية. نتابع العلاقة بين الداعية التلفزيوني والفتى المتنصر كخيط أساسي تكتنفه خطوط فرعية متشابكة تقدم صوراً عن مجتمع محبط يتعلق بأهداب الدعاة وفتات كلامهم، وعن العلاقة الخفية بين أهل الحكم وأهل الدعوة لإضعاف أفراد وجهات ومؤسسات، من بينها جماعات التصوف التي يتم تحطيمها بسبب جهلها التوازنات ولغة السلطة التي يتقنها الحكم والدعاة ويتبادلون منافعها في لعبة شد وجذب. «مولانا» الداعية المتعدد الوجوه يحضر في صورة الفقيه والطبيب النفسي ورجل الإعلانات وناقد السلطة وحليفها، كما يحضر في صورة العاشق الخائب والبريء المعرَّض للخطيئة. نهر من حراك الأبطال وألعابهم الكلامية وتشابك مصالحهم بحيث يبدو مجرد العيش مغامرة تستغرق الليل والنهار من دون فسحة لهدأة الروح. الخيط الأساسي للرواية يقدم مفاجأة في قسمها الأخير، فيدرك القارئ، في ما يشبه الدهشة، أن طبائع الناس ليست حقيقية في زمن يتقلب فيه كل شيء، ويتم تقديم الفتاوى وفق نجوم الفنادق، فللفقراء البعيدين من النفوذ فتاواهم، وللأغنياء النافذين فتاوى أكثر مرونة، وهنا تبدو الجريمة بمستوياتها المتعددة حاضرة في أساس مجتمع الاستبداد، بدءاً من المستبد الأعلى ووصولاً إلى الضحايا الذين لا تعوزهم المخاتلة. إبراهيم عيسى الذي يقدم برنامجه السياسي «هنا القاهرة» من فضائية «القاهرة والناس»، أوصله النقد السياسي إلى الرواية، التي بدأ رحلتها في عهد مبارك وقد كان أبرز فاضحي ذلك العهد. الخميس 3/1/2013: وجدان حين يبدأ الحب بالكتابة ينتهي على الورق، وحين يبدأ بالوجدان يبقى. حبك أنت لا ذلك الحب العمومي يلبسه العابر ليخلعه عند منعطف الطريق. ولا حب بلا زمن يتسع له، المرأة فضاء الرجل وهو فضاؤها، الحديقة الممتدة والشجر الوارف، حيث كائنات نراها أو لا نراها، خلف الورق وفي ثنايا التراب وتنفس الزهر. نصنع من رصيف المدينة حديقتنا، من شاشة الكومبيوتر جبالاً وودياناً وينابيع. الحب يدفع إلى المعجزة وحين يهدده الواقع يلجأ إلى الوهم، نعيم الوهم أو جحيمه. الحب الحقيقة، ملموساً أو غير ملموس، وهو سبب العيش ولا سبب غيره. والحب ضد الاستبداد بالتأكيد. وفي دخيلتنا حين نمارسه نخرج على قوانين الحاكمين وتعليماتهم، ونخفيه عنهم ليبقى ونبقى. لكم دولتكم ولي حبي. الجمعة 4/1/2013: بلا عاشق بعيداً خلف البحر نخترع قصة ونقول إنها حياتنا، والحياة دائرة. نقطة البدء التي نعود إليها. البيت الواطئ والخربشات على الجدار، بعضها من عبث أظافري وأكثرها من تفتت الكلس لوناً من خلفه لون. نكتب حياتنا من ذاكرة مثقوبة. كيف أصل إلى البيت والشارع مزدحم عند محطة الموتى يأتون من الحياة ويغادرونها إلى حيث لا يعرف أحد، في عربة بلا زينة ولا عيد. هذي بلاد تحترف متلازمتَي الفجيعة والقتل، حتى إذا عائلة هاجرت تحتاج إلى جيل رابع لتضحك. بلاد حيث تكشيرة الأسنان ضحكة وما في القلب في القلب. بعيداً خلف البحر ولم يبق منديل في اليد. آخر الوداعات في آخر السفن. آخر الوداعات وأول المواعيد خلف البحر، والنساء العاشقات سبقنني تاركات بلاداً اعتمدت الكراهية وأسدلت ستاراً على ما هو حي ومزهر في الإنسان والطبيعة. هل أصلح لهن، النساء العاشقات، بعدما صحّرتني بلادي، فنجوت وما نجوت، أنا الحطام لا تكون لي بداية خلف البحر. ابنة رأس بيروت في مرتفعات هامستد اللندنية، وابنة زحلة تصعد من واديها الأصلي الى مرتفع هجرتها مونت رويال، حيث لقاء ثلج وسماء، وابنة القاهرة بمزيجها العبقري من التحفظ والدلال تتمايل مع عصافير بالتيمور كأنها في حي غاردن سيتي الضاج بالزهر والشمس. العاشقات بعيداً في منتهى الألق يتجددن، وهناك يراقبهن عاشق محطم نجا من التجربة رغم أنفه.