أرغمت الظروف التي رافقت نكسة عام 1967، إضافة إلى ضآلة الإمكانات العلمية والتكنولوجية في جامعات مصر، كثيراً من العلماء المصريين على ترك وطنهم، على أمل أن يعودوا إليه مزوّدين بخبرات وتقنيات متطوّرة يمكن استثمارها في النهوض بالإنتاج والتنمية. التصميم على الذرّة إلى هذا الرعيل، ينتمي العالِم محمود زكي يوسف (مواليد القاهرة عام 1945) الذي حصل على بكالوريوس في الهندسة النووية عام 1967 من جامعة الاسكندرية. وحينها، كان هذا الفرع حديث النشأة، كما اقتصر الدخول إليه على المتفوقين في الرياضيات والفيزياء. وبعدها التحق بالخدمة العسكريّة الإلزاميّة في معهد الاتّصالات الحربية في القاهرة، لتنظيم دورات حول نُظُم الرادار. واستبقته المؤسسة العسكرية 3 سنوات في المعهد، بدعوى حاجتها لعلوم المهندسين وخبراتهم كي توظّفها في المجهود الحربي للبلاد. وفي عام 1972 نال شهادة الماجستير، ثم عيّن معيداً في جامعة الاسكندرية، كيّ يُدرّس علوم الذرّة في قسم المُفاعلات التابع ل «هيئة الطاقة النووية» في مصر. ثم تلقى منحة دراسية من «الوكالة العالمية للطاقة الذرية» (مقرّها فيينا) لمتابعة بحوثه في روما. وبعد انتهاء فترة تدريبه، توجّب عليه العودة إلى جامعة الإسكندرية. وأدرك يوسف أن الدراسات الهندسية والمختبرات والبحوث العلمية المتطوّرة، لم تكن متوافرة في جامعات مصر حينذاك، ما دفعه للتواصل مع الجامعات الأميركية، لاستكمال الدراسات العليا في مجال الذرّة. وفي 1974، حصل على منحة دراسية من جامعة «ويسكونسن» في علوم الهندسة النووية. وفي 1980، نال الدكتوراه من تلك الجامعة. وفي العام نفسه، انتقل من جامعة ويسكونسن إلى «كلية الهندسة والعلوم التطبيقية» في جامعة كاليفورنيا (لوس أنجليس). وما زال يعمل فيها أستاذاً وباحثاً في قسم الهندسة الميكانيكية والطيران والفضاء والعلوم التطبيقية. وساعدته الجامعة في الحصول على الجنسية الأميركية، تقديراً منها لتفوّقه. ويتولى راهناً قيادة بحوث في مجال الأداء النووي وتصميم مُفاعلات الاندماج النووي Nuclear Fussion، إضافة إلى دراسة مشاريع متّصلة بها، ومموّلة من قسم الطاقة في الحكومة الأميركية. تميّز يوسف بإحاطته الواسعة بالنشاطات والبرامج والبحوث والمشاريع المتعلّقة بالطاقة النووية، على غرار تصميم المُفاعلات النوويّة وتشغيلها وصيانتها ومراقبة كميات الأشعة فيها، والتأكّد من عدم حدوث تسرّب للأشعة النووية منها، والحفاظ على سلامة العاملين فيها. وأوكلت الجامعة إليه مهمات الإشراف على أداء أجهزة الإندماج النووي، واختبار المواد التي تدخل في إنتاج الطاقة النووية وإنتاج النظائر المُشعّة، وإيجاد تقنيات وتكنولوجيات متطورة في الاندماج والانشطار النوويين، إضافة إلى تنفيذ بيانات وقياسات دقيقة عنها، ثم صوغ هذه المعلومات في وحدة متكاملة. وكذلك يتولى يوسف تنسيق برامج البحوث الدولية في اليابان والمشاركة في تطوير برامج للاندماج النووي تُشرِف عليها «الوكالة الدولية للطاقة الذرية». ظاهرة الاندماج النووي إضافة إلى هذه النشاطات الشديدة التنوّع، احتل يوسف مكانة عالية في مراكز البحوث الأميركية والعالمية، إذ ترأّس كثيراً من الندوات العلمية التي تُنظّمها «الجمعية النووية الأميركية» ونظيراتها عن تصميم البيانات المتّصلة بنظريات الاندماج النووي وتحليلها وتقويم تجاربها. ويتمتع بعضوية في مجلس إدارة فريق التنفيذ في «المركز الوطني» (الأميركي) لبحوث الطاقة. وكذلك يحوز عضويّة مميّزة في «معهد بحوث البلازما والاندماج النوويين» في جامعة كالفورنيا، والفريق الاستشاري ل «الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، ولجنة البرامج الفنيّة في «المنتدى الدولي للهندسة النووية»، و «لجنة التنسيق الفنيّة الدوليّة لتكنولوجيا الاندماج النووي». ومثّل يوسف الولاياتالمتحدة في اجتماعات متخصّصة نظّمتها «الوكالة الدولية للطاقة الذرية». وأنجز ما يزيد على 140 بحثاً، نُشِرَت في مجلات علمية متخصّصة، كما ألقى عشرات المحاضرات في ندوات عالمية عن ظاهرة الاندماج النووي. تمحورت جلّ إنجازات يوسف، بحسب وثائق جامعة ويسكونسن، حول ابتكار تقنيات لإنتاج الطاقة النووية. وفي لقاء مع «الحياة»، بسط يوسف هاتين العمليتين بقوله إن «الانشطار النووي ظاهرة تحدث في المواد الثقيلة مثل اليورانيوم، نتيجة «القصف المُركّز» لذرّاته بالنيترونات. وبيّن أن عملية الانشطار تولّد كمية هائلة من الطاقة التي يمكن الاستفادة منها في تحويل المياه إلى بخار قادر على إدارة توربينات لتوليد الكهرباء. وأضاف: «تعتمد المُفاعلات الذريّة المتوافرة حالياً في كثير من الدول المتقدمة، على نظرية الانشطار الذري، بمعنى الاستناد إلى كميّات من اليورانيوم لإتمام الانشطار، لا تتوافر إلا لدى قليل من الدول مثل الولاياتالمتحدة وروسيا وجنوب أفريقيا. ولكن، ماذا يحدث عندما يستنفد اليورانيوم»؟. وأوضح يوسف أن الاندماج النووي يعتمد على اندماج ذرّات من مواد خفيفة مثل الديوتريوم والتريتيوم (وهي نظائر لذرّات الهيدروجين)، فتنطلق طاقة هائلة نتيجة هذا الاندماج يمكن استخدامها في توليد الكهرباء». ويلفت إلى أن مادة الديوتريوم متوافرة بكثرة في مياه البحر، ما يعني أن احتمال نفادها شبه معدوم، وهو أمر يدفع الدول المتقدمة في النادي النووي العالمي إلى التنافس والصراع، لإنتاج الطاقة عن طريق الاندماج النووي. وحاضراً، يشارك يوسف في إنشاء مُفاعل حراري عالمي، يحمل اسم «آيتر» ITER، اختصاراً لعبارة Intrenational Tokamat Experimental Reactor. ويستقر هذا المفاعل في فرنسا ويعتبر أول من نوعه في إنتاج طاقة الكهرباء اعتماداً على نظرية الاندماج النووي.