تفتقر دول عربية عديدة إلى دراسات حول أوضاع الطبقة الوسطى وتوجهاتها وغاياتها السياسية، فما يحكم الحوار حول هذه الطبقة هو مجموعة من المسلمات والافتراضات المسبقة حول سلوكها. وفي الجانب الآخر هناك من يجادل من دون أدلة أن الطبقة الوسطى تبخرت وانضمت إلى الفئات المتدنية الدخل، ومع التغيرات السياسية في الدول العربية وبروز قوى سياسية واجتماعية، بات لزاماً إعادة النظر في مفهوم هذه الطبقة وكيفية تموضعها في مقابل القوى الصاعدة، خصوصاً منها الإسلامية الطابع. بداية لا بد من الاتفاق على مفهوم الطبقة الوسطى الذي نتحدث عنه، فهل هي الفئات التي تحتل المرتبة الوسطى في سلم الإنفاق، إذا تخلينا عن تقسيم المجتمع إلى عشر فئات تبدأ من الفئات الأقل فقراً إلى الفئات الأعلى دخلاً واستهلاكاً؟ هذا الأسلوب في التقسيم هو المتبع في الولاياتالمتحدة التي تقرر حجم الطبقة الوسطى بناء على النمط الاستهلاكي، المفترض أنه مرتبط بمستوى الدخل المفترض أيضاً أنه مرتبط بمستوى التعليم والمهارات. أما الطريقة الثانية التي يمكن على أساسها تصنيف الطبقة الوسطى فينطلق من المفهوم الاشتراكي - الماركسي الذي يهتم أكثر بالجوانب الثقافية والتعليمية ودرجة الانخراط في النشاطات السياسية والثقافية والاجتماعية، وهذا المنهج يعير النمط الاستهلاكي قليلاً من الاهتمام. أما في الدول العربية فركز معظم التحليلات المتعلقة بالطبقة الوسطى على مدى السنين العشر الماضية كثيراً على تحليل السلوك السياسي أكثر منه على نمط الاستهلاك. وتأتي في هذا الإطار دراسة الباحث جلال أمين حول سلوك المصريين وكيفية تغيره على مدى فترة زمنية طويلة، إلى جانب دراسات كثيرة أُجرِيت في فلسطين ولبنان والأردن. ولعل السبب الرئيس للجوء إلى هذا النوع من التحليل هو غياب المعلومات اللازمة لتحليل الأنماط الاستهلاكية على مدى زمني طويل، يرافقه ضعف الثقة بالبيانات التي تنشرها المؤسسات الإحصائية الرسمية في العديد من الدول والتي تعتبر مثار شكوك من الباحثين كونها تحاول إخفاء الحقائق. وشكل «الربيع العربي» والانفتاح السياسي النسبي في بعض الدول فرصة مهدت لبروز قوى سياسية واجتماعية تعبر عن واقع الطبقات الوسطى وتطلعاتها بغض النظر عن المنهج المتبع في القياس. ولم تبرز هذه الخلافات قبل «الربيع العربي» بين مختلف القوى السياسية لأن المجال السياسي كان مغلقاً، وكان الهم هو الانعتاق من الأنظمة القائمة، والتي برز معها العديد من القوى الاجتماعية التي لم تكن قادرة على خوض معركتها الحقيقية والسياسية. كذلك تتكون الطبقة الوسطى في العديد من الدول العربية من فئتين عريضتين هما: العاملون في القطاع العام والعاملون في المؤسسات الأمنية، فهذه الفئات هي الأكثر تعليماً والأكثر تأثيراً، لكن أوضاع هذه الفئات شهدت تراجعاً في مستويات المعيشة بسبب عدم قدرة الدول على إدامة الإنفاق على هذه الفئات والمؤسسات التابعة لها، خصوصاً في مجال التعليم. وما حصل أن هذه الفئات التي كانت تشكل الطبقة الوسطى تراجعت وفقدت كثيراً من الحوافز والامتيازات التي كانت تدافع عنها، والفئات العليا من موظفي القطاع العام والمؤسسات الأمنية هي الوحيدة التي تمكنت من الحفاظ على مكتسباتها بل وزيادتها في بعض الأحيان من خلال بناء تحالفات جديدة مع الفئات الصاعدة من رجال الأعمال والقطاعات المالية التي لم تتمكن الفئات التقليدية من التعامل معها والاستفادة منها. من هنا برزت تحالفات جديدة بين الفئات العليا من موظفي الدولة ورجال الأعمال، خصوصاً في الدول التي طبقت برامج إصلاح اقتصادي بإشراف المؤسسات الدولية. وهذا أدى إلى تراجع الطبقة الوسطى التقليدية لمصلحة الطبقات الصاعدة والتي لا يوجد كثير من المشترك في ما بينها، فمصادر الدخل تختلف والرؤى السياسية والاقتصادية متباينة بين الفئتين، وفي الوقت ذاته تعاني «الطبقة الوسطى الصاعدة» انقساماً على خلفيات فكرية ودينية، فهي تلتقي عند مبادئ الليبيرالية الاقتصادية وحرية الأسواق، لكنها تختلف كثيراً في رؤيتها السياسية والاجتماعية إلى درجة الاستقطاب والتباين في بعض الأحيان، ولعل هذا يبرز في شكل واضح في كل من تونس ومصر والى درجة أقل في المغرب. كل هذا يعني أن الطبقة الوسطى التي غيبت لفترات طويلة وهيمنت عليها فئة موظفي القطاع العام والمؤسسات الأمنية هي التي اضمحلت وتراجعت، وهي فئات منظمة وتملك عدداً من المنابر الإعلامية للتعبير عن أزمتها وإيصال صوتها، في حين أن الطبقات الصاعدة هي التي تشغل الحيز الجديد، لكنها منقسمة على ذاتها. وهذا يعني أن تحالفات جديدة لا بد أن تنشأ بين الطبقات التقليدية التي تعاني تراجعاً والطبقات الصاعدة، فهناك كثير من القواسم المشتركة بينها، خصوصاً في المجال الاجتماعي. كذلك سيستمر التحالف ما بين فئات رجال الأعمال والطبقات الوسطى الصاعدة حماية لمصالح تلك الفئات ومكاسبها الاقتصادية التي راكمتها خلال فترة التحولات الاقتصادية منذ بداية التسعينات. ستجد الديناميكية التي سترسم حدود العلاقة بين هذه الفئات تعبيراتها في المؤسسات السياسية المنتخبة، والتي من شأنها استيعاب هذه المتغيرات ورسم التحالفات الجديدة، لكن هذه تحتاج إلى مدى زمني يتحقق فيه استقرار هذه العلاقات وإجراءات بناء الثقة بين مختلف الفئات التي لم تعتد على العمل معاً في السابق. الأكيد هو أن التحالفات الجديدة برسم التشكل والاضمحلال المزعوم للطبقة الوسطى يتحدث عن فئة سادت لفترة لكنها أفلت بتراجع قدرات الدولة المركزية على إدامتها والحفاظ على مكاسبها في عالم سريع التغير. * باحث في «مركز كارنيغي للشرق الأوسط» - بيروت