ما الذي فعلته أزمة المال العالمية ومعضلة الديون السيادية الأوروبية بالاستثمارات الدولية؟ بعد مضي خمس سنوات على الأحداث العاصفة لخريف 2008، تؤكد إفصاحات الشركات والمعطيات الإحصائية الرسمية والتوقعات شبه الرسمية، أن الاستثمارات الدولية خرجت، أو هي في طريقها إلى الخروج، من المناطق التي تعاني تداعيات الأزمتين بأقل الخسائر. وقبل الخوض في تفاصيل الشواهد والتوقعات، لا بدّ من الإشارة إلى أن الاستثمارات الدولية تصدرت لائحة المتهمين في التصريحات التي أطلقها في حينه مسؤولون كبار مثل وزير الخزانة الأميركي السابق هنري بولسن، عن أسباب زلزال أزمة المال المدمر، ولو كان الاعتقاد السائد حالياً يشير إلى أن ذنب هذه الاستثمارات لم يتعدَّ تعرية القواعد المترهلة للعبة الاستثمارية في أميركا، تماماً كما أن تنافساً حزبياً يونانياً روتينياً في خريف 2009، فضح أخطر أزمة ديون سيادية تعيشها منطقة اليورو في معظم دول أطرافها. لكن الاستثمارات الدولية لم تجد ساتراً يحميها من زلزال أزمة المال وهزاتها الارتدادية. إذ طبقاً لقاعدة بيانات يعدها صندوق النقد ويحدثها سنوياً، معتمداً على الإفصاح الاختياري لدوله الأعضاء، سجلت حركة انتقال رؤوس الأموال عبر الحدود ذروة تاريخية عام 2007، حين تجاوزت قيمتها تسعة تريليونات دولار، أي 20 في المئة من الناتج العالمي. وفي نهاية 2008 بلغ حجم الخسائر التي تكبدتها الاستثمارات الدولية في بضعة أشهر 8.3 تريليون دولار. وتأثرت الاستثمارات الدولية بدرجات متفاوته، إذ من ضمن أنواع الاستثمارات التي يشملها مصطلح «رؤوس الأموال العابرة للحدود» الفضفاض، تتمتع الاستثمارات المباشرة بحصانة نسبية تكتسبها من طبيعتها الاستراتيجية وطول آجالها. وفيما تحتل الاستثمارات في الأسهم في الطرف الآخر القصي من خط الأخطار، تأتي في الوسط الاستثمارات ذات العائد الثابت الموظفة في شكل رئيس في الديون السيادية وسندات الشركات. أما احتياطات العملات الصعبة العالمية، التي تشكل الجزء الأكبر من الثروات السيادية لدول الخليج العربية والرصيد الخارجي لعمالقة الاقتصادات الناشئة، الصين والبرازيل والهند، وتقدر حالياً بنحو 11 تريليون دولار، فتنفرد بتصنيف خاص بها، إذ يكتفي صندوق النقد بإدراجها من ضمن رؤوس الأموال العابرة من دون اعتبارها استثمارات دولية، بسبب دور أساس تلعبه في تمويل واردات بلدانها ودعم موازناتها المالية عند الضرورة. واستناداً إلى منظمة مؤتمر الأممالمتحدة للتجارة والتنمية (اونكتاد)، لم تنجح الاستثمارات المباشرة في استعادة معدلاتها القياسية المسجلة قبل أزمة المال إلا العام الماضي، حين ارتفع حجم تدفقاتها بنسبة 16 في المئة لتصل إلى 1.6 تريليون دولار. ولا تتوقع المنظمة حدوث تطورات دراماتيكية هذه السنة، بسبب هشاشة وضع الاقتصاد العالمي وتفاقم أزمة الديون السيادية الأوروبية، لكنها رجحت استئناف مسار الانتعاش في العامين المقبلين. وتعامل صندوق النقد في شكل مختلف مع الاستثمارات المباشرة، لافتاً إلى ارتفاع رصيدها في 86 بلداً بنسبة 11.7 في المئة عام 2010 ، مقترباً من 22.8 تريليون دولار، ثم بنسبة 4.6 في المئة عام 2011. لكن معطيات الصندوق أظهرت في الوقت ذاته، أن أرصدة معظم الدول من الاستثمارات سجلت تراجعاً حاداً، وهي تُوظف في المشاريع الإنتاجية الجديدة والاستحواذ على الشركات. بينما لم تسجل زيادات مهمة إلا في عدد قليل من الدول وتحديداً في الولاياتالمتحدة والصين إضافة إلى السعودية التي ارتفع رصيدها إلى 170 بليوناً. وإذا كانت أزمة المال خفضت المعدل السنوي لضخ الاستثمارات المباشرة، فهي زلزلت الأرض من تحت أقدام العمود الفقري للاستثمارات الدولية المتمثل في رؤوس الأموال العابرة للحدود الموظفة في محافظ السندات والأسهم. ويطلق على هذه الصنف المميز من الاستثمارات الدولية مصطلح «استثمارات المحافظ»، وتختلف حصصها من السندات والأسهم باختلاف المستثمر وأهدافه الاستثمارية. لكن المؤشرات الدولية تمنح السندات نصيب الأسد (ما ينوف على 60 في المئة). وشهدت استثمارات المحافظ ما يشبه النمو الانفجاري في العقد الماضي، إذ على رغم عدم تجاوز رصيد 70 بلداً منها 10 تريليونات دولار في بداية العقد، رفعت تدفقاتها وأرباحها التراكمية معدل نموه السنوي بنحو 5 تريليونات لتصل قيمته إلى 40 تريليوناً عشية أزمة المال عام 2007. لكن في نهاية عام 2008، انخفض هذا الرصيد إلى 31 بليوناً، ولو أنه عوض معظم خسائره بسرعة قياسية قبل استفحال أخطار أزمة الديون السيادية التي أصابته بانتكاسة عام 2011. ويدين رصيد الاستثمارات في المحافظ في تعويض معظم خسائره للانتعاش السريع والمطرد، الذي ميز أداء أسواق المال العالمية في السنوات الثلاث منذ أزمة المال. وفي حال صحت التوقعات باستمرار الانتعاش هذه السنة، ربما تجد الخسائر المتبقية فرصة قوية للتعويض، معيدة هذا الرصيد إلى مستواه المسجل عشية الأزمة. وتستضيف سندات وأسهم 73 بلداً رصيد الاستثمارات في المحافظ الدولية، لكن 10 بلدان فقط هي أميركا واليابان وبريطانيا ولوكسمبورغ وألمانيا وفرنسا وإرلندا وهولندا وسويسرا وإيطاليا، تستأثر بنحو 67 في المئة من هذا الرصيد. ولا يفصح معظم الدول العربية عن حجم الاستثمارات في المحافظ التي تستضيفها، لكن صندوق النقد يقدّر قيمتها ب 85 بليون دولار العام الماضي.