الفارق بين غزة اليوم وغزة 2008 هو كالفارق بين سورية اليوم وسورية ما قبل الخامس عشر من آذار (مارس) 2011. القتل الإسرائيلي هناك، والقتل الأسدي (هل يمكن وصفه ب «السوري»؟) هنا، يؤكدان أن النظامين وثالثهما الإيراني لا تؤمن إلا بعقيدة واحدة: القتل. وهذه أنظمة بات تحالفها الضمني عبئاً على المنطقة وشعوبها. لم يكن نظام دمشق قد فرغ بعد من مداهمة مكاتب «حماس» ولم يجد فيها «شبّيحته» ما يستحق أن يُنهب، حتى كان النظام الإسرائيلي يستعد لاختبار صواريخه مجدداً في أجساد أطفال غزة، فيما طلب «الحرس الثوري» من المرشد الإيراني أن يصدر له الأمر ب «تحرير القدس». أما الفارق بين «حماس» و»حزب الله» فبالغ البساطة وجدير بالملاحظة. إذ إن «حماس» اختارت أن تغادر سورية لئلا تضطرها ضغوط النظام إلى القتال إلى جانب قواته، أما «حزب الله» فاختار بكامل وعيه وتصميمه المشاركة في قتل السوريين، بل اعتبرها «واجباً جهادياً». وفيما تعمّد الأمين العام لهذا الحزب أن يخصص بعضاً من خطبه لبثّ احتقاره للشعب السوري وحقده على ثورته، متحدياً بأن النظام «لن يسقط»، فضّل قادة «حماس» التزام الصمت لئلا يتهموا بالجحود و«إنكار الجميل» إلا أن عدداً من قادتهم في غزة ومنهم إسماعيل هنية تمايز بتأييد الشعب السوري، علماً بأنه أحد الذين يرتبطون بإيران وقد زارها بعدما جهر بهذا الموقف، ذاك أن إيران واصلت النظر إلى «حماس» على أنها حليف تعوّل على خدماته لمواصلة العبث بالملف الفلسطيني في إطار استرتيجيتها الإقليمية. كانت «حماس» وجدت، كجميع الفلسطينيين في سورية، أن النأي بالنفس عن الصراع الداخلي، على صعوبته، حق وواجب. حقٌ لأن النظام منحها لجوءاً عليها أن تحترمه. وواجبٌ لأنها عاشت احتضاناً متبادلاً مع الشعب ولا بدّ أن تتعاطف مع توقه إلى الحرية. وكان زعيم «حماس»، خالد مشعل، استبق الثورة السورية بأسابيع محذراً بشار الأسد مباشرةً، بعدما سأله إذا كان يتقبّل الصراحة، من أن رياح التغيير العربية لن توفره. وبعد ذلك أبلغه عبر وسطاء من النظام أن «الإخوان المسلمين» السوريين فوّضوا إليه نقل اقتراح مبكر لحوار يركّز على «إصلاحات». ولم يأته ردّ أو قل جاء الردّ بافتتاح حملة التقتيل، فسحب «الإخوان» عرضهم، ثم جيء إلى مشعل ب «طلب خاص من الرئيس» بأن يردّ على تصريحات للشيخ يوسف القرضاوي من قطر يبشّر فيها ب «نهاية نظام بشار»، لكنه تملّص ناصحاً بأن يأتي الرد على عالم دين من عالمٍ دين بمرتبته. ثم طُلب من مشعل أن يقوم بحملة داخلية للدفاع عن النظام، وكان العنف قد حصد بضعة آلاف من المدنيين، فأجاب أن قادة آخرين في «حماس» يقومون ذلك لكنه استشعر الضغط خصوصاً أن الأسد لم يعد مهتماً باستقباله والاستماع إليه، فرأى مشعل آنذاك الاستنجاد بحسن نصرالله لعله يساعد في نصح بشار بالتعجيل في الحوار وفي طرح «إصلاحات حقيقية»، وبالفعل قصد نصرالله دمشق واجتمع بضع ساعات مع الأسد، ثم بعث برسول إلى مشعل ليبلغه «السيّد يقول لك مشي الحال»، أي أن الأسد متجه فعلاً إلى الحوار. ولم يمشِ الحال طبعاً إذ تصاعد العنف واجتيحت حماة وبوشر حصار حمص (صيف 2011) وبدأت الانشقاقات من الجيش، فارتأى مشعل أن يتغيّب مبتعداً عن دمشق بعض الوقت، ولما عاد جاءه أحد الاستخباريين البارزين ليقول له إن الرئيس يريده أن يقوم بحملة يزور فيها مناطق محددة لعقد لقاءات مع الناس والدعوة إلى وقف الثورة و»بعد ذلك الرئيس سيستقبلك»، واعتذر مشعل عن عدم تلبية الطلب وقال «يؤسفني أنني لم أعد قادراً على مقابلة الرئيس في هذه الظروف»، ثم اتصل بعدد من المسؤولين السوريين يبلغهم بما حدث فاستهولوا الأمر لكنهم لم يلوموه، وبعد بضعة أيام غادر دمشق نهائياً. وتشير الطريقة التي اغتيل بها الكادر الحمساوي كمال غناجة إلى عملية انتقامية بحتة لا تقلّ وحشية عما فعله «شبيحة» النظام ويفعلونه ضد سوريين عاديين يصوّرون عمليات تعذيبهم قبل ذبحهم أمام الكاميرا، إذ فصل رأسه عن جسده الذي حمل آثار تعذيب بالغ الشدّة. كان غناجة تخلّف في دمشق ولم يغادرها مع بقية أعضاء المكتب السياسي، ربما لأنه قائد عسكري يطارده الإسرائيليون وكان نائباً لقائده محمود المبحوح الذي اغتاله «الموساد» الإسرائيلي في دبي (كانون الثاني/ يناير 2010). لكن انتقام النظام من «حماس» لن يتوقف عند هذا الحد، خصوصاً أن غناجة تولّى بعد المبحوح تهريب الأسلحة إلى غزة، وقد استولى قتلته على كمبيوتره وملفاته. في أي حال أكد التصعيد الجديد في غزة أن النظام السوري بات خارج المعادلة، وكذلك إيران رغم أن وجود الصواريخ في أنحاء القطاع يُنسب إليها. هذه المرّة، خلافاً للعام 2008، لم يتبارَ محورا «الاعتدال» و«الممانعة» على النفوذ الإقليمي فوق جثث غزة ودمارها. وفي حين أن بعض تظاهرات الجمعة الماضية في سورية رفع شعارات مؤيدة للغزّيين في مواجهتهم العدوان الإسرائيلي، كان النظام يتساجل مع إسرائيل بقذائف وطلقات طائشة لا يُعرف ما ترمي إليه. لعل الموقف الشعبي انتزع من النظام فرصة بدت سانحة لإحياء مقولة الأسد إن النظام والشعب متوافقان ومتلاقيان في «الممانعة»، فهو دفع بهذه الحجة ليستبعد احتمال قيام ثورة شعبية ضدّه. لكن الوقائع بيّنت أن الشعب في محنته ظلّ أكثر وفاءً لنصرته التاريخية للفلسطينيين من النظام الذي انشغل دائماً باللعب ب «الورقة الفلسطينية». ورغم أن الحدث الغزّي استرق بعض الأضواء من الحدث السوري، خصوصاً لأنه أظهر مصر مستهدفةً، سواء في سياستها «الجديدة» الراغبة في التمايز عن نهج نظام مبارك أو في العلاقة الأيديولوجية بين حكامها الجدد و»حماس»، إلا أن النظام السوري لم يجد سبيلاً إلى استغلال الاحتجاب الجزئي للأضواء الإعلامية عنه لا في الداخل ولا في الخارج. وفي ذلك دلالة إلى الحال التي بلغها، وبلغتها إيران معه. ولا شك في أن طهران قرأت التغيير السلبي الحاصل، والخسارة الملموسة التي نجمت عنه، ذاك أنها تستطيع الاستمرار في تسليح «حماس» وأخواتها في غزة، إلا أن شلل سورية النظام وتعطّلها باتا يحولان دون تحقيق مكاسب أو جنيها. فحتى اندفاع «حزب الله» لإسماع المعنيين عربياً ودولياً بأن له (لإيران) دوراً في مفاجأة ظهور صواريخ «الفجر 2» الحمساوية، وأنها عينة مما لديه، يبقى أقلّ بكثير من الاستقطاب الذي أمكن اجتراحه مطلع 2009 لمناهضة المحور المصري - السعودي. فتركيا وقطر هذه المرّة إلى جانب مصر، وفيما كان الاستقطاب السابق تحوّل حرباً سياسية بين محوري «الاعتدال» و»الممانعة» انتهزتها إسرائيل للذهاب في عدوانها على غزة إلى الهدف الذي رسمته مسبقاً، فإن «الممانعة» بدت في التصعيد الراهن وكأنها تنتقل ولو جزئياً إلى القاهرة التي لن تخوضها على الطريقة الإيرانية - السورية، ولن تمكّن طهران من الاستثمار فيها. * كاتب وصحافي لبناني.