«في أي مرحلة بدأت تركيا ارتكاب الأخطاء في إدارة العلاقة مع العراق؟» . من المؤكد إنَّ الردَّ التركيّ سينفي ارتكاب الأخطاء من الأساس، لكن مآل العلاقات بين البلدين ومتغيراتها الدراماتيكية خلال أقل من عامين، يشير إلى نتائج لا تعكس، في السياق العام، رؤيةً إستراتيجية تركية واضحة لترتيب الأوراق مع الجار الجنوبي المضطرب. الوصف الأكثر اقتراباً من الواقع، أنَّ تركيا كانت اكتسبت منذ العام 2003 نفوذاً خاصاً في بلاد الرافدين، فحصدت عبر سلوكٍ اقتصادي ذكيّ، وديبلوماسي أكثر ذكاءً، علاقات واسعة النطاق انتشرت من شمال العراق ووسطه حيث السُنّة والأكراد، إلى الجنوب، حيث الغالبية الشيعيّة، بالإضافة إلى تحوّلِها مرجعيةً للقومية التركمانية التي يتمركز أبناؤها في كركوك، المدينة العراقية الأكثر إثارة للجدل. بعبارة أخرى، السياسة التركية نجحت في ما عجزت عنه دول المنطقة مجتمعة، وتفوقت، أيضاً على السياسات الأميركية والغربية، فأصبحت صديقاً لكل الأطراف العراقيّة، بل إنَّ مرحلة الحرب الأهلية (2006-2008) شهدت الزخم السياسي والاقتصادي التركي الأقوى، على رغم التخبط الإقليمي في التعامل مع هذه الحرب. وبالمقارنة مع إيران، الجار الذي يُعرَفُ باعتباره الأكثر نفوذاً في العراق، فإن طهران حسمت منذ العام 2003 توجهاتها، عبر محاولة بناء إستراتيجية نفوذ تعتمد المشتركات المذهبية مع سكان جنوب العراق. وعلى رغم أنَّ النفوذ الإيراني فُرِضَ، في أغلبِ الأحيان، بالقوة وبالاعتماد على صداقة فوقية مع السياسيين المتصدرين المشهد اليوم، ومن دون قاعدة شعبية شيعية عراقية متعاطفة على المدى البعيد، فإن طهران تعترف بأن إستراتيجيتها لن تشهدَ انتشاراً إلى باقي أنحاء العراق، وأنها مهددة حتى مع الأصدقاء المفترضين. لكن تركيا كانت موجودة في النجف وكربلاء والبصرة بالتزامن مع وجودها في الموصل والأنبار، وأيضاً في إقليم كردستان، حيث لم تمنع الحرب المفتوحة التي تخوضها تركيا مع حزب العمال الكردستاني داخل أراضيها وخارجها، من التأسيس لتحالف واسع النطاق مع أكراد العراق، وذلك في الحقيقة إنجاز إستراتيجي فذ إذا ما قورن أيضاً بالغياب العربيِّ الدائم عن العراق. ويكفي القول في هذا الصدد، إنَّ تركيا وإيران هما الدولتان الإقليميتان الوحيدتان اللتان احتفظتا بسفارتين فاعلتين في بغداد خارج المنطقة الخضراء، وبالاعتماد على أطقم حماية وفرتها الحكومات العراقية التي تعاقبت منذ بداية الاجتياح الأميركي، وغير مرتبطة بالشركات الأمنية التي تولت حماية السفارات الغربية منذ ذلك الحين. لكن تركيا افتتحت قنصلية لها في البصرة، بالإضافة إلى قنصليات في اربيل والموصل وكركوك، لإدارة مشروعات عملاقة أبرمتها شركاتها هناك، فيما افتتحت السفارة الإيرانية قنصليات في البصرة وأربيل والنجف وكربلاء والسليمانية وغابت تماماً عن المحافظات السُنيّة. الثقة العراقية بالشركات والمنتجات والبضائع التركية فاقت بدورها تلك الإيرانية، ونتج عن ذلك تضاعف معدلات التبادل التجاري والاستثمارات لتصل إلى نحو 15 بليون دولار سنوياً منتصف العام الماضي، وهي أرقام لم ترتقِ إلى نصفها الاستثماراتُ ومعدلات التبادل التجاري مع إيران. والسياقات السياسية التركية سمحت لأنقرة على امتداد السنوات الماضية باستقبال زعماء شيعة، مثل مقتدى الصدر وعمار الحكيم ونوري المالكي وإبراهيم الجعفري، وزعماء أكراد، مثل مسعود بارزاني وجلال طالباني وبرهم صالح ونجيرفان بارزاني، وزعماء سُنّة، مثل طارق الهاشمي وأسامة النجيفي وصالح المطلك، وزعماء معارضين أو منفيّين أو مسلحين من المكونات الثلاثة، فيما سمح النفوذ الإيراني عام 2010 بعقد اجتماع لتشكيل الحكومة حضره الشيعة والأكراد وغاب عنه السنة. وفي التفاصيل، فإن الثقافة التركية تسللت أيضاً عبر إنتاجها الفني والدرامي إلى كل المنازل العراقية في توقيت انتشارها في الشرق الأوسط بشكل عام لتنتج أمثلةً للمدينة العصرية وسلطة القانون في ظل تجربة إسلامية، فيما عجز الفن الإيراني في استقطاب متابعين عراقيين كثر، ما خلا بعض المسلسلات التأريخية. وعلى رغم أن أنقرةوطهران كانتا من بين الدول القليلة التي سمحت بمرور العراقيين إليها من دون تأشيرات دخول مسبقة، فإن مصروف المسافرين إلى تركيا يفوق، وفق دراسةٍ اقتصادية، بنحو عشرة أضعاف الأموال التي صرفها مسافرون وسياح عراقيون إلى إيران. والدلالة التي تخصنا في هذا الشأن، أنَّ تركيا استقبلت عراقيين من كل المدن بلا استثناء، توزعت اهتماماتهم بين السياحة والتجارة والإقامة، إلى جانب ورشات تدريبيّة وإبرام عقود ودراسة، فيما استقبلت إيران سيّاح وزائرين عراقيين من مدن الجنوب لزيارة مراقد دينية، وبعض التجار الأكراد. المحصلة الأولية من هذا الطرح تفيد بأنَّ تركيا تمتلك خيارات أكثر اتساعاً للعب دور مركزي في صوْغ مستقبل هذا البلد، لكنها فقدت بشكل مفاجئ زخم حضورها، بخاصة في مدن الجنوب العراقي، لتتحول في السياق السياسي والإعلامي من صديق لكل العراقيين إلى صديق لبعضهم. في المعترك الإقليمي لا تمكن مناقشة الأسباب التي قادت إلى ذلك الانزياح التركي من المساحة العراقية من دون إشارة قوية إلى طبيعة الصراع الإقليمي الذي اتخذ مسارات أكثر حدة ووضوحاً مع تفجر الأزمة السورية وبروز تركيا كطرف إقليمي فاعلٍ في دعم الثورة ضد نظام الأسد، مقابل دعم إيراني لهذا النظام. ولا جديد في القول إنَّ السياسة العراقية واجهت متغيرات المنطقة بارتباك سمح بنقل العراق من قائمة الدول «المحايدة» في الصراع، كما تفيد الإعلانات الرسمية العراقية، إلى صف الدول التي دعمت نظام دمشق بطريقة أو أخرى، وإنَّ هذا التوجه السياسي العراقي كان له تأثير واضح على العلاقات مع أنقرة. ويمكن التذكير بتصريح مثير لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي خلال زيارته روسيا أخيراً وصف فيه التدخل التركي في الأزمة السورية بأنَّه «وقح»، واعتبر في تصريح سابق، السياسةَ التركية تجاه سورية والعراق مهدِّدةً لأمن المنطقة برمتها. ولا يمكن القول إن تصريحات المالكي مثلت «سابقة» في تغيّرِ لهجةِ الخطاب السياسيِّ بين البلدين، بل إنَّ تصريحات كان أطلقها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان وصف فيها المالكي بأنَّه ينتهج سياسات «طائفية»، في معرض انتقاده الاتهامات التي وُجهت إلى نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي، مثلت السابقة التي سمحت بتعكير مستوى الخطاب السياسي والديبلوماسي بين الطرفين. وعلى رغم أن قضية احتضان تركيا للهاشمي فُسِّرت إعلامياً بكونها المدخل المباشر لتفجر أزمة العلاقات التركية العراقية، فإنَّ هذه القضية لم تكن في حد ذاتها سبباً للتأزيم، وإنْ كان الخطابُ الرسمي العراقي قد استخدمها لتبرير مواقفه المتشنجة من تركيا. ويمكن التذكير بهذا الصدد بأنَّ الحكومة العراقية لم تتخذ موقفاً واضحاً، كما أنَّها لم تُعلِّقْ على مطالبات كان أطلقها في وقت سابق زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر لإيران بتسليم «إسماعيل حافظ اللامي» المعروف ب «أبي درع»، وهو قائدُ مليشيات مشهورٍ مُتهمٍ بعشراتٍ من قضايا القتل التي ارتُكِبت خلال مرحلة العنف الطائفي، ومقيم في طهران حالياً. وأبعد من ذلك، فإنَّ الحكومة العراقية لم تبنِ مواقفها من النظام السوري، على سبيل المثال، بالنظر إلى استمرار احتضانه عشرات البعثيين العراقيين السابقين، ومنهم جناح محمد يونس الأحمد، الذي اتهمته بغداد في العام 2009 بالتورط في تفجيرات وزارة الخارجية، ولا يزال يحظى برعاية الأسد، كما أنَّ إقامة عددٍ كبير من معارضي النظام الحالي والبعثيين السابقين في الأردن لم يؤثر جوهرياً في العلاقة بين البلدين. لكن ما هو ثابت، أنَّ التوجه التركي إلى اقتسام حلقات النفوذ مع إيران عبر دعم المُمثليات السياسية السُنيّة، وتعميق العلاقات مع الأكراد، والذي بدأ من العام 2009 في ظل الانتخابات التي شهدها العراق في العام 2010، وبداية الانسحاب الأميركي من العراق، كان لها أثرٌ بالغٌ في تغيير نمط العلاقة، وبالتالي تغيير الاستراتيجيات التي سمحت لتركيا قبل هذا التاريخ بتكوين صداقات واسعة النطاق مع أطراف عراقية مختلفة. افتراق مع الشيعة تركيا التي وجدت نفسها في صميم حراكٍ إقليمي غير متوقع، وطرحت نموذجها السياسي كمثال للاحتذاء في دول الربيع العربي، وسط ترحيبٍ شعبي عربي مُتصاعد بهذا النموذج، اختارت توقيتاً وظروفاً غير مناسبة لتغيير آلية خطابها السياسي الموجه إلى العراق. ويمكن تأشير جملةٍ من الخطوات والمواقف التركية في هذا الصدد، مهدت بشكلٍ واضحٍ لتأزم العلاقة بين تركيا والأحزاب الشيعية الحاكمة في العراق: - ربطت تركيا، بقصد أو من دون قصد، بين قضية الإمدادات المائية لنهري دجلة والفرات، والتي تزامنت مع شحٍّ كبير في واردات النهرين، بدوافع سياسية، حيث أعلن نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي بعد زيارات متكررة إلى تركيا عامي 2009 و2010، أنه نجح في إقناع الأتراك بمضاعفة حصص العراق المائية، وفُهِمَ هذا الإعلان من الأوساط الحكومية الشيعية بأن «تركيا تريد العبور إلى العراق عن طريق أصدقائها السُنّة». - سَمَحتْ أنقرة عبر حركة اتصالاتها وتصريحات مسؤوليها في ذلك العام، بتبلور رؤية شيعية مفادها أنَّ تركيا ستكون الراعي الإقليمي ل «القائمة العراقية»، حتى أنَّ مفاوضات تشكيل الحكومة العام 2010 تمت تحت سقف الاتصالات مع تركيا كداعم ل «العراقية»، وجرت اتصالات شبه يومية بين مسؤولين إيرانيين وأتراك لمناقشة قضية تشكيل الحكومة. - وعلى رغم إنَّ تركيا استخدمت علاقاتها الوثيقة بعدد من زعماء «العراقية»، ومنهم رئيس البرلمان أسامة النجيفي، للقبول بالتسوية التي سمحت بتشكيل الحكومة الحالية، غير أن أطرافاً مُقربةً من المالكي أكدت في أحاديث غير إعلامية، أنَّ مرحلة تشكيل الحكومة واختيار القيادات السُنّية فيها، كشفت تأثيراً تركياً لم يكن متوقعاً بالنسبة إلى فريق المالكي، الذي تبنى نظرية ترى أنَّ قبول واشنطنوطهران بالتسوية الحكومية يكفي لتضييق نطاق المؤثرين في الخريطة العراقية، وأن دخول تركيا ومن خلفها دول الخليج إلى موازين تلك الخريطة سوف يعقد فرص الوصول إلى تسويات. - تنمية أنقرة علاقات خاصة وعميقة مع أكراد العراق، بخاصة مع الرئيس مسعود بارزاني، الذي يبتعد بمسافة تاريخية معروفة عن إيران، مقارنة بشريكه السياسي ورئيس الجمهورية جلال طالباني، عَمَّقَت القناعة لدى الشيعة بأن تركيا اختارت أن تدخل في نطاق سياسة استقطاب إقليمية واسعة النطاق. - تمكن الإشارة في هذا الصدد إلى أنَّ ردود الفعل التركية على تَفجُّرِ قضية الهاشمي كانت أكثر حدة من تلك التي انطلقت من دول المنطقة مجتمعة، فبالإضافة إلى تصريحات أردوغان، كان وزير الخارجية التركي احمد داود اوغلو تخلّى عما عُرِفَ عنه من حساسية في إطلاق التصريحات، ليعلن في وقت مبكر من الأزمة استعداد تركيا لاستقبال الهاشمي كضيف عليها، مع أنَّ ذلك لم يكن في حاجة إلى إعلانٍ رسميّ. - اوغلو نفسه اتخذ خطوة غير مدروسة بزيارة مدينة كركوك من دون إبلاغ الحكومة العراقية، ما عزز حالة الفراق بين تركيا والأحزاب والقوى الشيعية، حتى تلك التي جمعتها معها علاقات متميزة، مثل تيار الصدر، وسمح لاحقاً لحزب الحكومة «الدعوة» بتنظيم تظاهرات واحتجاجات ضد السياسات التركية وإطلاق حملة دعائية واسعة النطاق لإدانة الحكومة التركية. قد تكون تركيا في نهاية المطاف نجحت في عبور الدور الذي كان متصوراً لها بتبني تركمان العراق في نطاق توازن إقليمي قائم على أسسٍ قوميّة ومذهبية، والمؤكد أنها نجحت عراقياً مُنذ اللحظة التي رفضت فيها استعمال أراضيها لمرور القوات الأميركية، لكنها لم تنجح لاحقاً في تكريس حضورها عندما كانت كل التوقعات تشير إلى تعاظم هذا الحضور.