نهاية قرن وبداية قرن جديد لحظة تاريخية فاصلة, وقد جرت عادة المؤرخين والمفكرين ان يركزوا علي نهاية أي قرن, ولذلك نجد كتبا تصدر وعنوانها نهاية القرن وقد يضاف إليها عنوان فرعي يشير إلي المشكلة المحددة التي يعالجها المؤرخ أو الباحث, كما ان بداية القرون الجديدة عادة ما يحتفل بها المفكرون من باب استشراف المستقبل, وقد يكون من بينهم المتفائلون, الذين يرجون عهدا جديدا تزدهر فيه الانسانية, أو المتشائمون الذين يرون في القرن الجديد امتدادا لسلبيات القرن الماضي. ومن باب النبوءات السياسية القول بأن القرن العشرين إذا كان امريكيا فان القرن الحادي والعشرين قد يكون صينيا, وضعا في الاعتبار صعود الصين الاسطوري إلي قمة الاقتصاد العالمي بمعدل نمو غير مسبوق هو9% بالاضافة إلي فائض مالي ضخم, وانتشار للسلع الصينية من كل الانواع في مختلف بلاد العالم, كل ذلك بالاضافة إلي الصعود في سلم القوة العسكرية, والارتفاع في مقياس النفوذ العالمي. وأيا ما كان الأمر فإن نهاية قرن وبداية قرن جديد تغري بذاتها في إجراء تقييم تاريخي لسلبيات وإيجابيات القرن الماضي, بالاضافة إلي التركيز علي الأحداث البارزة التي اثرت علي مجري التاريخ العالمي, مثل الحرب العالمية الأولي والحرب العالمية الثانية, وإلقاء القنبلة الذرية الأمريكية علي نجازاكي وهيروشيما في اليابان. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية الصراع العالمي بين الاتحاد السوفيتي ممثلا للشيوعية والولاياتالمتحدةالأمريكية ممثلة للرأسمالية, فان عددا من الحروب الخطيرة لابد من التوقف عندها, واهمها الحرب الأمريكية الفيتنامية وهزيمة الولاياتالمتحدةالأمريكية. غير ان ابرز أحداث نهاية القرن العشرين ولاشك, هو الانهيار المدوي لامبراطورية الاتحاد السوفيتي نحو عام1993, والانقسامات الكبري التي حدثت وانفصال عديد من الاقاليم السوفيتية سابقا, وظهور دولة روسيا وريثة الاتحاد السوفيتي وهي مقطعة الأوصال, بالغة الضعف اقتصاديا, تسودها الفوضي, وتحكمها السياسات العشوائية, ونحن نتحدث هنا عن الفترة من جورباتشوف إلي بوتين, لان صعود بوتين للسلطة كان نقلة نوعية في تاريخ روسيا, لانه كان له مخطط لاسترداد روسيا لقوتها وعودتها إلي المسرح العالمي, لتكون قوة دولية فاعلة من جديد. غير ان نهاية قرن وبداية قرن جديد, عادة ما تشهد معارك فكرية كبري تركز علي نقد بعض النظريات القديمة, وتبشر بصعود نظريات جديدة, في مختلف الميادين, ونعني في السياسة والاقتصاد والاجتماع والأدب والفن. ولعل ابلغ دليل علي ذلك ان نهاية القرن العشرين شهدت نقدا بالغ الحدة والعنف للشمولية باعتبارها نظاما سياسيا فاسدا ليس في منطلقاته النظرية فقط التي تركز علي إلغاء دور الفرد ومبادراته فقط واحتكار الدولة لمقاليد الأمور الاقتصادية جميعا في ظل إلغاء مطلق للملكية الخاصة, ولكن في ممارساته التي بدت في قهر الجماهير, وإلغاء ارادتها السياسية, وتحكم حزب وحيد في مقاليد الأمور, بحكم إلغاء التعددية السياسية. غير ان نقد النظم السياسية الفاسدة التي شاعت في القرن العشرين, يقابله علي العكس التبشير والترويج لنظام سياسي اثبت نفسه في التطبيق وهو الديمقراطية. غير ان نقد الشمولية من زاوية النظم السياسية قد يكون مبررا بالفعل لقصورها عن اشباع الحاجات الديمقراطية للجماهير العريضة وللنخب السياسية والثقافية علي حد سواء, إلا ان هذا النقد انصب ايضا علي الماركسية باعتبارها كانت النظرية التي قامت علي اساسها النظم السياسية الشمولية, وفي مقدمتها الاتحاد السوفيتي ودول الكتلة الاشتراكية, بالاضافة إلي الصين وكوبا. بعبارة اخري وفق حملة ابستمولوجية معرفية واسعة المدي, تمت الادانة المطلقة للماركسية باعتبارها ايديولوجية سياسية معيبة, اثبت التاريخ عقم قيمها الاساسية, وبطلان سياساتها التطبيقية. والواقع ان التحليل النقدي لهذه الحملة المعرفية ضد الماركسية, اختلط فيها التعصب الايديولوجي من قبل انصار الرأسمالية, بالمراوغة الفكرية من قبل انصار الماركسية. ويبدو التعصب الايديولوجي في النقد الرأسمالي للماركسية انه تجاهل تماما القيم الايجابية التي قامت علي اساسها الماركسية, وهي منع استغلال الانسان للانسان, واشباع الحاجات الاساسية للجماهير في إطار ميزان دقيق للعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص, مما يفتح الطريق امام ازدهار الشخصية الانسانية, والكشف عن منابع الابداع العميقة الكامنة في اعماقها. ومن ناحية اخري ركز هذا النقد الرأسمالي للماركسية علي الممارسات الخاطئة بل والمنحرفة التي اقدمت عليها الاحزاب الشيوعية في مختلف البلاد التي طبقت فيها الماركسية بطريقة أو بأخري, وذلك من أجل الادانة المطلقة لها كإيديولوجية تهدف لتحرير الانسان من ربقة الاغلال السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تحوطه من كل جانب. والحقيقة ان منظري الرأسمالية في القرن العشرين عانوا كثيرا من وجهة النظر المعرفية في صياغة نسق فكري متكامل مثل الماركسية, يستطيع تحليل مختلف الظواهر السياسية والاقتصادية. من أول الطبقات الاجتماعية إلي القانون والقيم الثقافية. والواقع ان احد كبار المنظرين للفكر الرأسمالي وهو عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي الشهير, ريمون ارون كان صريحا حين ذكر ذات مرة اننا يقصد أهل اليمين لن نستطيع اطلاقا صياغة نظرية رأسمالية متكاملة تنافس الماركسية. ومن ناحية أخري غامر بعض فلاسفة الرأسمالية الأمريكية بمحاولة صياغة هذه النظرية الرأسمالية المتكاملة, وابرز محاولة في هذا الاتجاه علي الاطلاق هي كتاب المفكر الأمريكي بيتر برجر وعنوانه الثورة الرأسمالية نشر عام1987. والجديد في هذه النظرية هو صياغتها الصورية المحكمة, فقد قدمت خمسين مقولة للدفاع عن الرأسمالية وتبريرها, واظهار افضليتها علي الماركسية. وهذه المقولات تتعلق بثمانية ميادين رئيسية هي: الرأسمالية والحياة المادية, والرأسمالية والطبقات, والرأسمالية والديمقراطية, والرأسمالية والثقافة الفردية, والرأسمالية وتنمية العالم الثالث, والرأسمالية في شرق آسيا, الرأسمالية الصناعية واخيرا إضفاء الشرعية علي الرأسمالية. وزعم بيتر برجر ان كل مقولة من هذه المقولات ثبتت صحتها واقعيا, وهو يعتبرها قابلة لان تدحض, بشرط ان علي من يريد دحضها ان يقدم ادلة من الواقع, وليس علي اساس ايديولوجي. راجع عرضنا النقدي لنظرية برجر في كتابنا: الوعي القومي المحاصر: ازمة الثقافة السياسية العربية القاهرة: مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية1991 الفصل الأول. والواقع ان هذه المحاولة المعرفية الجسور, كانت أهم نظرية قدمها مفكرو الرأسمالية في نهاية القرن العشرين, نقدا للماركسية من ناحية, وترويجا للرأسمالية من ناحية أخري. غير اننا اذا تركنا جانبا ظواهر التعصب الايديولوجي التي مارسها مفكرو الرأسمالية في المعركة الفكرية الكبري التي دارت رحاها في نهاية القرن العشرين, فإننا سنكتشف ان أهل اليسار مارسوا من ناحية أخري عديدا من اساليب المراوغة الفكرية دفاعا عن الممارسات الشيوعية المنحرفة, ومحاولة لانقاذ مكانة الماركسية باعتبارها ايديولوجية هدفت لتحرير الانسان من قيوده, ودفعه في ظل العدالة الاجتماعية وترقية وعيه الثقافي, في طريق الانجاز والابداع بمختلف صوره. وأول اسلوب من اساليب المراوغة, هو الادعاء ان الذي طبق في الاتحاد السوفيتي لم يكن الماركسية في صورتها الخالصة, ولكنه كان تشويها للماركسية التي ينبغي الا تحاسب في ضوء تطبيقاتها العملية! ونلفت النظر هنا إلي ان هذه المراوغة الفكرية درج علي كل من ينطلقون من الايديولوجياه الشمولية ايا كانت علي الادعاء بأنهم يملكون الحقيقة المطلقة! وكما زعم الماركسيون المتعصبون ان الماركسية الصحيحة لم تطبق حتي الآن, فإن انصار الإسلام هو الحل من اتباع تيارات الإسلام السياسي, حين يجابهون بالقهر الذي مورس في كل عهود الدولة الإسلامية يقولون علي غرار الماركسيين المتعصبين لم يكن هذا هو الإسلام الصحيح, أو في قول آخر لاينبغي ان يحاكم الإسلام بسلوك المسلمين! وهذه المراوغات تهرب في الواقع من ممارسة فضيلة النقد الذاتي, فبدلا من الاعتراف الصحيح بالاخطاء, وتكييف هذه الاخطاء سواء كانت في المنطلقات النظرية أو في التطبيقات, فان المدافعين يميلون إلي تقديس النظرية باعتبارها تعلو علي الواقع, مع انه لايمكن الحكم علي اي نظرية إلا في ضوء ممارساتها الواقعية, وان كان هذا لاينطبق علي الإسلام لانه دين سماوي وليس نظرية. ولذلك وجدنا بعضا من كبار المفكرين الماركسيين وعلي رأسهم الفيلسوف الشيوعي الفرنسي لويس التوسير الذي اشتهر في العالم بمحاولة تقديم قراءة جديدة للماركسية يمارسون بعد ابداع نظري جسور نقدا ذاتيا صريحا له دلالة معرفية بالغة. فعل ذلك التوسير في مؤتمر نظمته صحفية شيوعية هي روسانا روساندي في روما عنوانه الماركسية في المجتمعات ما بعد الثورية. وقف التوسير قائلا بوضوح معلنا فشله المعرفي كنا نبحث عن جوهر خالص للنظرية الماركسية, فاكتشفنا انه ليس هناك جوهر خالص لاي نظرية! ولو طبقنا مباديء النقد الذاتي علي الجانب السياسي في الإسلام, لقلنا ان غياب نظرية سياسية متكاملة صاغها الفقهاء المسلمون البارزون, هو من بين الاسباب التي ادت إلي شيوع الاستبداد في الدولة الإسلامية, وذلك لان مبدأ الشوري ليس سوي توجه عام, لم يتح له ان يقن بشكل مؤسسي, وهو الذي اتاح للخلفاء ان يمارسوا الحكم المطلق, بدون ان يساءلوا بطرق قانونية متفق عليها. غير أنه من ناحية أخري هناك بالنسبة للمتحاورين الفكريين في نهاية القرن نماذج رفيعة المستوي تستحق ان نقف امام اجتهاداتها. من ابرزهم في الولاياتالمتحدةالأمريكية عالم الاجتماع الماركسي, ارنسون في كتابه القيم ما بعد الماركسية والذي قرر فيه ان الماركسية لم تسقط كإيديولوجية, ولكن سقط مشروعها الفكري لتغيير العالم! ومن ثم فالمهمة الملقاة علي عاتق الماركسيين في كل انحاء الأرض, هو صياغة مشروع راديكالي جديد يضع في اعتباره التحولات التي لحقت بالمجتمع العالمي. اما في الفكر الرأسمالي فقد وجدنا مفكرين يمينيين يتسمون بالنزاهة الفكرية, لم يقنعوا بإدانة الماركسية ادانة مطلقة كما فعل بعض زملائهم من حزب التعصب الايديولوجي وقد يكون من ابرزهم لسترنورو في كتابه الشهير مابعد الرأسمالية. وهكذا نخلص إلي انه اذا كانت نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين ادت إلي محاكمة افكار القرن الماضي, والتبشير بنظريات جديدة, مثل العولمة التي تم تطبيقها فعلا, فإننا في حاجة معرفية لتقييم هذه السياسات في ضوء انهيار النظام الرأسمالي المعاصر. الأهرام