عاش ادوارد مورغان فورستر حتى العام 1970. وهو اعتبر طوال القرن العشرين، واحداً من كبار الكتاب الإنكليز فيه، ثم اعتبر ايضاً واحداً من الذين اجتذبت رواياتهم كاميرات كبار المخرجين، من ريتشارد اتنبورو الى جيمس آيفوري. ومع هذا حين رحل فورستر عن عالمنا، كان أمضى نحو خمسة عقود من دون ان يكتب أية رواية جديدة. وهو، على أية حال، كان توقّع لنفسه، منذ اصدر عمله الأكثر شهرة، اي رواية «ممر الى الهند» بين العامين 1922 و1924، ان تكون هذه روايته الأخيرة. وقد صدق توقعه. والحقيقة ان كتابة فورستر ل «ممر الى الهند» لم تكن من الصدفة في شيء... كما لم يكن من الصدفة ان تعتبر هذه الرواية من اجمل ما خطّه قلم غربي عن الشرق. ففورستر امضى جزءاً كبيراً من حياته متجوّلاً في هذا الشرق، من شرق البحر الأبيض المتوسط، الى الشرق البعيد. ومن هنا، حين كتب ذلك النوع من الكتب الشرقية، كان يكتب عن معرفة دقيقة وقدرة توثيقية تضافرت مع خيال واسع. وإذا كان هذا الخيال بدا دائماً واسعاً وخصباً في كتابات فورستر الروائية، التي كانت تبدو مع هذا أشبه بكتابة تسجيلية وثائقية، فإن ثمة كتباً له، تسجيلية/ تاريخية، تبدو لمن يقرأها وكأنها نصوص روائية جزلة. ومن هذه الكتب كتابه الشهير عن مدينة «الاسكندرية» الذي يضعه كثر الى جانب رباعية لورانس داريل الاسكندرانية، او بالتكامل معها، بصفتهما اجمل وأعمق ما كتب غربيون عن الثغر المصري المدهش. والغريب في الأمر ان كتاب «الاسكندرية» لفورستر، ليس رواية ولا هو كتاب تاريخ بالمعنى المتعارف عليه للكلمة. بل هو دليل... اجل: دليل سياحي(!). او هكذا، على الأقل ما يعرّف به هذا الكتاب استناداً الى وصف المؤلف نفسه، ويكتشفه القارئ ما إن يبدأ بتصفّحه، حتى وإن كان هذا القارئ سيكتشف ايضاً ان هذا الدليل يختلف عن كل دليل كتب عن مدينة او عن منطقة من العالم. ذلك ان فورستر وسّع هنا في هذا النص الاستثنائي، مفهوم الدليل السياحي، ليجعل من كتابه نصاً تاريخياً/ سياسياً/ حضارياً/ جغرافياً ثم اخيراً: سياحياً عن الاسكندرية. بل أكثر من هذا، ضمّن المؤلف نصّ الكتاب تعريفاً ببعض كبار كتاب الاسكندرية الذين التقاهم خلال إقامته فيها، ومن أولّهم، بالطبع قسطنطين كافافي، شاعر الاسكندرية اليوناني الكبير الذي كان فورستر من اول مكتشفيه والمعرّفين بأعماله في الثقافة الأوروبية. وهو لئن كان كتب عنه بتوسع وحب في هذا الدليل «الاسكندري»، فإنه في الوقت نفسه، تقريباً، كتب عنه ايضاً دراسة مطوّلة نشرت كجزء من كتابه «فاروس وفاريون» الذي نشر في العام 1923. يكشف كتاب فورستر عن «الاسكندرية» عمق اهتمام هذا الكاتب بمصر، تماماً كما ان «ممر الى الهند» كشف عمق اهتمامه بشبه القارة الهندية، تلك المنطقة من العالم التي عاش فيها وكان يعرفها ويعرف أهلها جيّداً. وفورستر وضع كتابه عن «الاسكندرية» في العام 1922، على شكل دليل حقيقي. لكنّ هذا الكتاب كان سيئ الحظ كما يبدو، اذ إن مستودع المطبعة التي طبعت نسخه الأولى في ذلك الحين، احترق مدمراً معه القسم الأعظم من نسخ تلك الطبعة. ومن هنا تأخر صدوره في طبعة ثانية. والطريف هنا هو ان فورستر، الذي يروي هذه الحكاية بنفسه، يقول ان الاسكندرية كانت في ذلك الحين من التغيّر والتبدّل السريعين، الى درجة انه بعد صدور الطبعة التي وزّعت وتم تداولها من الكتاب، حدث له ان زار الاسكندرية ليكتشف انه ضائع في أزقتها وشوارعها ما إن خرج من محطة سكة الحديد. مهما يكن، فإن الكتاب هو، في جزء منه، رصد معمّق للتغيرات التي طرأت على مدينة الاسكندرية عبر العصور. قسّم فورستر كتابه الذي يضع عند مدخله قولين لاثنين من ابرز أعلام الاسكندرية على مدى العصور: الشاعر ابن دقماق، وفيلسوف مدرسة الاسكندرية افلوطين، قسّمه الى قسمين اساسيين وملحق. القسم الأول عنونه «تاريخ»، وتحدث في ابوابه الثلاثة عن «المرحلة الإغريقية - المصرية»، ثم «عن المرحلة المسيحية» خاتماً هذا الباب بالفتح العربي، قبل ان يتناول في الباب الثالث «المدينة الروحية» متحدثاً عن اسكندرية اليهود، ثم اسكندرية الأفلاطونية الجديدة، فاسكندرية المسيحيين، خاتماً بالحديث عن الاسكندرية المسلمة و «المدينة العربية» و «المدينة التركية» ليصل الى «العصر الحديث» متناولاً على التوالي حملة نابوليون فعصر محمد علي فالمدينة الحديثة وقصف الاسكندرية. اما القسم الثاني من الكتاب فعنونه «الدليل»، وأتى اشبه بجولة سياحية - معرفية مفصّلة تنقّل فيها الكاتب من «القصر الكبير» الى شارع رشيد، ومن ذلك القصر الى رأس التين، ثم من القصر مرة ثالثة الى أحياء جنوبالاسكندرية، مستخدماً كما هو واضح خط سير شعاعياً، مركزه الدائم ذلك القصر المنيف. بيد ان فورستر لا يكتفي هنا بالحديث عن الاسكندرية نفسها، اذ نراه يفرد فصلاً لأبي قير ورشيد، ثم فصلاً لمناطق ما يسميه ب «الصحراء الليبية» وصولاً الى ابو صير ووادي النطرون. وأخيراً في الملاحق، يحدثنا فورستر عن «الطوائف الدينية المعاصرة» في الاسكندرية، قبل ان يفرد فصلاً لموت كيلوباترا وآخر للأناجيل المصرية المنحولة. يتبيّن من هذا كله كيف ان فورستر لم يشأ من الأساس ان يضع دليلاً سياحياً للمدينة يكون برسم الزائرين العاديين، بل كتاباً ذكياً، حين يقرأه الزائر ويزور المدينة على ضوئه، تتخذ هذه المدينة سمات مختلفة. من هنا لم يكن صدفة ان تقول عبارة افلوطين التي بها يفتتح فورستر كتابه، بعد المقتطف من ابن دقماق: «لكل رؤية يجب ان تكون هناك نظرة متكيفة مع ذاك الذي تتعين مشاهدته». ويقيناً ان كتاب فورستر هذا، هو نظرة كيّفها الكاتب مع المدينة التي أحبها وعاش فيها واتخذ من أعلامها، في ذلك الحين، اصدقاء له... بل قد يمكننا ان نقول ان فورستر إنما كيّف المدينة كلها مع نظرته إليها وذلك قبل نحو ثلث قرن من كتابة لورانس داريل روايته الأشهر عن الاسكندرية، الرواية التي قيل دائماً انها تدين بالكثير لدليل فورستر هذا. في هذا الإطار، لم يكونوا بعيدين من الصواب كل اولئك الذين وصفوا كتاب فورستر بأنه اشبه بأن يكون نزهة ستاندالية (نسبة الى الكاتب ستاندال) وسط ربوع الاسكندرية وسحرها، مضيفين انه حتى اذا كانت المدينة فقدت مع مرور الزمان كوزموبوليتها وسحرها الماضيين، فإن نظرة فورستر الإنسانية، لا تزال حتى يومنا هذا قادرة على التعبير عن المدينة... ولد ادوارد مورغان فورستر (الذي عرف دائماً بالحرفين الأولين من إسمه العلم إ.م. فورستر) في العام 1879، وقد اتجه صوب الكتابة كما صوب الاهتمام بمدن الشرق في مرحلة مبكرة من حياته... وهو حتى وإن كان اصدر كتبه الرئيسة خلال النصف الأول من حياته التي بلغت اكثر من تسعين سنة، فإنه ظل يشغل حيزاً مهماً في الحياة الأدبية الإنكليزية بعد عودته النهائية الى انكلترا وانصرافه الى تدريس النقد في «كلية الملك»... واشتهر فورستر بمواقفه الليبرالية، ولا سيما في العام 1960 حين وضع كل ثقله الأدبي للدفاع عن رواية «عشيق الليدي تشاترلي» حين راحت تهاجمه من جديد، كما اشتهر، في مواقفه السياسية كما في كتاباته بنزعة معادية للاستعمار ككلّ وللاستعمار البريطاني على وجه الخصوص. وإذا كان فورستر توقّف عن كتابة الرواية منذ اواسط العشرينات، فإنه واصل كتابة النقد وسير الأدباء حتى مرحلة لاحقة من حياته، خصوصاً في مجال تزعمه مدرسة النقد الجديد في جامعة كامبريدج. [email protected]