في شكل عام، ومهما كان من شأن رأينا في الاستشراق والمستشرقين، لا بد من الاعتراف بأنه كان من بينهم كتّاب ومفكرون لم يتماهوا تماماً مع الفكر الاستعماري، كما حاولت وتحاول أقلام وطنية كثيرة، ومنذ أزمان بعيدة، أن تقول... ولربما يزيد من هذا البعد أن نتذكر أن أجزاء كبيرة من ثقافتنا العربية والشرقية، وجزءاً كبيراً من العمران الحضاري الذي تبقى لنا، إنما كان من نتاج وجود أولئك الغرباء، وفي شكل جعل كثراً من المفكرين العرب والمسلمين يتساءلون: تُرى ما الذي أضفناه نحن الى ذلك كله بعد عقود طويلة من الاستقلال؟ ونحن إن كنا نكتفي بهذه الإشارة العابرة هنا، الى موضوع نعرف تماماً أنه شائك واحتاج ولا يزال يحتاج الى سجالات طويلة، ونزاهة أطول للبحث فيه، فذلك لأننا فقط نود أن ننطلق منه كي نصل الى الكتابة عن عمل معين يكاد، في حد ذاته، ان يقول لنا ان ثمة من المبدعين الأوروبيين من سبقنا بأشواط في انتقاد سياسات بلاده وممارساتها في حق الشعوب التي كانت تحتل بلدانها. ولعل الغريب في الأمر هنا، هو ان الكتّاب الذين كان ثمة إجماع عندنا على إدانة وقوفهم الى جانب القوى الإمبريالية وممارساتها في بلادنا صاروا أشهر كثيراً، وأكثر حضوراً في حياتنا الثقافية، من الآخرين الذين عرفوا بسلوكهم الطريق المعاكسة اي طريق التنديد بالاستعمار ومستتبعاته. ولعل أوفى دليل على هذا، الفارق في الشهرة كما في الحضور بين كاتب من طراز لورانس داريل، الذي يرى كثر أن في رباعيته الاسكندرانية، كثيراً من المواقف «الاستعمارية» أو المزدرية بسكان المنطقة، وبين كاتب آخر وهو إدوارد فورستر الذي وضع واحداً من اجمل الكتب في اللغة الإنكليزية عن مدينة الاسكندرية، التي تبدو تحت قلمه شديدة الاختلاف عن اسكندرية رباعية داريل. ولمزيد من المقارنة المنصفة في هذا المجال، تمكن الموازاة كذلك بين المواقف المأثورة عن رديارد كيبلنغ - وتوصف عادة بالاستعمارية/ الإمبريالية - وتلك المأثورة عن انطوني بارغس (صاحب «البرتقال الآلي» والذي اعتنق الإسلام لفترة في جنوب شرقي آسيا) أو عن جورج اورويل الذي أبدع في وصف العقلية الاستعمارية وتفاهتها في عدد من نصوصه التي كتبها عن إقامته في بورما الآسيوية. وهنا، في عودة الى فورستر، الذي يبدو - للأسف - الأقل شهرة بين اصحاب الأسماء التي ذكرناها، وكاد يكون أقل شهرة بكثير ايضاً لولا ان المخرج الإنكليزي الكبير دافيد لين أقدم في آخر أيامه على تحقيق واحد من افضل أفلامه انطلاقاً من روايته «ممر الى الهند»، التي كانت نُشرت اولاً عام 1924. بالنسبة الى لين، كان من الواضح ان هذا العمل السينمائي الكبير، ينضوي ضمن سياق اعماله الملحمية التي كان همه من خلالها، الى جانب تقديم افلام كلاسيكية ضخمة رائعة الجمال (منها «جسر على نهر كواي» و «لورانس العرب» و «دكتور جيفاغو»)، البحث عن الإنسان وتناقض مصلحته مع مصلحة القوى الكبرى في العالم، عبر تصوير مجابهة هذا الإنسان لتلك القوى. إن نظرة معمقة الى «لورانس العرب» تقول هذا، وكذلك حال نظرة معمقة الى «دكتور جيفاغو»... الخ. ومن هنا كانت اختياراته أدبية/ بصرية/ أخلاقية، في كل مرة كان يريد فيها ان يقدم على إخراج فيلم جديد له، ونقول هذا حتى ولو جازفنا بأن نكون غير مفهومين من قبل كل اولئك الذين لا يرون في «لورانس العرب» سوى عمل «استعماري» أو في «دكتور جيفاغو» عملاً مضاداً للثورة! في هذا الإطار، كانت الخلفية الكامنة وراء اختيار لين رواية فورستر، واضحة في بعدها الإنساني، وكذلك في بعدها المتعلق بالنظرة السلبية التي ينظر بها الإنسان الأبيض الى الشعوب الملونة من سكان البلاد المحتلة الأصليين. ولعل في إمكاننا ان نقول هنا وعلى الفور، إن «ممر الى الهند» هي، أولاً وأخيراً، رواية إنسانية ومنصفة من هذه الطينة. وفي الوقت نفسه تعتبر هذه الرواية أكبر شاهد على رغبة كاتب إنكليزي في التصدي لذهنية مواطنيه ولؤمهم. وهنا من خلال رواية موضوعها الوجود البريطاني في الهند، أثارت حين صدورها سجالات واسعة وعنيفة في بريطانيا كما في الهند. تدور الأحداث الرئيسة ل «ممر الى الهند» في مدينة شاندراغور، حيث تقيم وتعمل وتمارس الحكم مجموعة من الموظفين البريطانيين يحمل أفرادها وعائلاتهم أفكاراً مسبقة وجامدة حول السكان المحليين، وكذلك حول الحياة في شكل عام، فهم مثلاً يرون ان الإنسان حين يخرج عن بيئته يضيع وينتهي، وبالتالي فإن الكارثة حتمية وفي الانتظار في كل مرة تكون فيها محاولة ارتباط بين الإنكليز والهنود. أما حبكة العمل فمحورها سيدتان وصلتا لتوهما من لندن، إحداهما عجوز (مسز مور) والثانية صبية (مس آديلا). ومنذ وصولهما تقول السيدتان انهما إنما أتينا الى هنا سعياً لاكتشاف ما هي «الهند الحقيقية»، تبعاً لفكر إنكليزي سائد يتحدث عن الهند وكأنها غابة من السحر والغموض يجب دائماً اكتشافها (وهي فكرة سيبدو لنا واضحاً وبسرعة أن الكاتب لا يوافق عليها، أولاً لمعرفته العميقة بالهند وأحوالها، وبعد ذلك لأن اي كلام من هذا النوع إنما هو في نهاية الأمر كلام عنصري. ومن الواضح بالتالي ان الكاتب سيجعل من احداث الرواية التالية، وهي - للمناسبة - احداث شيقة تجعل من هذه الرواية عملاً شعبياً بامتياز، بصرف النظر عن خلفيته أو عمقه الفكريين. بعد وصولهما ترتبط السيدتان بصداقة مع الدكتور عزيز، ابن البلد اللطيف الودود الذي سرعان ما يقترح على السيدتين مرافقتهما في رحلة استكشافية تستجيب لشيء من الفضول الذي أبدتاه. وإذ تبدأ الرحلة بزيارة الى النادي، سرعان ما تكتشف السيدتان في ذلك النادي الإنكليزي الخالص، ما كان الدكتور عزيز يعرفه لكنه يفضل السكوت عنه: تكتشفان ان الوجود في رفقة شخص هندي هو فضيحة الفضائح. ويبدو أن هذه اشتغلت في شكل شديد السلبية على الآنسة آديلا، بحيث إنها لاحقاً حين يكونون داخل مغارة نائية يزورونها، يخيل إليها انها تسمع صدى ما يتردد في النادي ما يجعلها ترتجف غضباً وخوفاً، خصوصاً اذ ترد الى ذهنها فكرة ان عزيز، إنما حاول اغتصابها داخل المغارة - للمناسبة هل يذكّر هذا التفصيل بشيء ما، حدث منذ ايام في نيويورك (ستراوس - كان) ما يحيلنا مرة أخرى الى فكرة ان الحياة تقلد الفن احياناً؟ - المهم ان الشرطة المحلية تقبض على عزيز بتهمة ممارسة العنف مع المرأة الإنكليزية، وتتقرر إحالته الى المحاكمة. إزاء هذا التطور يتملك الندم الآنسة آديلا، وتتنبه الى انها ما اتهمت عزيز إلا ظلماً، غير انها هنا، وإذ أدت الحادثة كلها إلى إشعار الرسميين الإنكليز - الذين طبعاً ما كانوا ينظرون بعين الرضا الى علاقة الرفقة التي قامت بين عزيز والسيدتين - بأنهم انتصروا على الهندي، يرفضون الأخذ بما تقوله آديلا الآن، بعد أن أخذوا - مسرورين - بما قالته قبلاً، من اتهام للشاب الهندي. وإزاء هذا الواقع الجديد، وإذ يتفتح وعي آديلا على ما اقترفته حقاً، وما يقترفه ابناء جلدتها الآن، ترى انها هي انما اتهمت عزيز عن خوف وحسن نية، فيما هم يتهمونه الآن قصداً وفي شكل عنصري. وتكون النتيجة ان آديلا تشعر بقرف وافتراق تام عن بقية الإنكليز، خصوصاً ان حياة عزيز، حتى بعدما أطلق سراحه، دمّرت تماماً. وصارت التهمة، في شكل أو في آخر لاصقة به، على رغم كل شيء. صحيح - هنا - ان عزيز يلجأ هرباً من حكم المجتمع المسبق عليه، الى الأدغال ليعيش حياة بائسة. لكنه الآن، حتى في الأدغال، يراقب وتحصى عليه حركاته وسكناته. فإذا أضفنا الى هذا تدهور علاقته - نتيجة الأمر كله - مع البروفسور اللطيف والطيب فيلدنغ، مدير كلية شاندراغور، والذي كان يخصّ الشاب - قبل «الحادثة» بأطيب عواطفه، يصبح في إمكاننا أن نفهم تماماً صرخة عزيز في آخر الرواية إذ يقول: «ليسقط الإنكليز... مهما كان من الأمر!»... موجهاً بعد ذلك كلامه الى الإنكليز: افعلوا ما شئتم أيها الأصدقاء. ان من شأننا نحن معشر الهنود ان نكره بعضنا بعضاً كما نشاء. لكننا جميعاً، نكرهكم أنتم أكثر... نكرهكم جميعاً...». عاش إدوارد مورغان فورستر بين 1879 - و1970. وهو ولد في لندن ليصبح بسرعة يتيم الأب ويربى في جو نسائي. وهو درس في جامعة كامبردج، التي عاد إليها آخر حياته ليموت فيها. وبين نهاية دراسته وموته عاش متنقلاً في الكثير من البلدان، من اليونان الى ايطاليا الى مصر والهند، حيث عايش المشاكل السياسية وكتب عنها دراسات وكتباً. غير أن شهرته بُنيت مع رواياته ثم مع كتبه النقدية والسير التي كتبها، ناهيك بأدب الرحلات الذي تميز فيه، وكان من بين أعماله في هذا المجال النص الظريف - السياحي تقريباً - الذي وضعه عن الاسكندرية في مصر. [email protected]