تستوقفك بعض الأخبار حتى لا يمكنك قراءتها سريعاً، ثم إغماض عينيك والقفز إلى خبر آخر من دون التعليق عليها أو التفكير في الكتابة عنها. في الأسبوع الماضي تناقلت وسائل الإعلام قرار رئيسة ليبيريا إيلين جونسون سيرليف بوقف 46 مسؤولاً حكومياً عن العمل. وربما يكون هذا القرار عادياً لو لم يكن من بين هؤلاء ابنها، بعد رفض هؤلاء المسؤولين كشف ممتلكاتهم للجنة مكافحة الفساد في البلاد. ابن الرئيسة الليبيرية تشارلز سيرليف يعمل نائباً لمحافظ «بنك أوف ليبيريا»، وقائمة الموقوفين عن العمل موقتاً تضم بين أسمائها النائب العام ورؤساء لجان حكومية ولجان مكافحة الإيدز والقنصل العام في نيويورك. في البلاد العربية يتفشى الفساد وتُنتهك النزاهة وتتزايد نسب الفقر والبطالة، ويُقتل المئات ولا يرف للحاكم جفن، وكأن لا شيء يحدث على الأرض. بل لا أتذكر أن حاكماً عربياً في العصر الحديث أحال أحد أبنائه أو أقاربه للمحاكمة بتهم الفساد أو تجاوز القانون كما فعلت سيرليف! ربما لا تعرف غالبية الشعوب العربية من ليبيريا (الواقعة غرب أفريقيا) سوى لاعب كرة القدم الشهير جورج ويا، الذي حصل على جوائز كروية عدة، وعُد أفضل لاعب أنجبته القارة السمراء. وللمصادفة جورج ويا كان ترشح لرئاسة بلاده في مقابل سيرليف في انتخابات العام 2005، لكنه لم ينجح، لكن ذلك لم يهزمه، وانخرط في العمل الإنساني في دولة فقيرة يقارب عدد سكانها 4 ملايين نسمة! في بداية فترة ولاية سيرليف الثانية، أمرت جميع المسؤولين في الحكومة بالإعلان عن ممتلكاتهم للمساعدة في تقديم حكومة تدار بشفافية للمجتمع الدولي. سيرليف لم ترأس ليبيريا لكونها جاءت من عائلة إقطاعية أو نبيلة، أو حكمتها على ظهر دبابة أميركية، بل فازت في انتخابات البلاد العام 2005، والتي أنهت حرباً أهلية استمرت 14 سنة، لتشغل منصب الرئيس في مطلع 2006، لتصبح أول امرأة تنتخب لرئاسة دولة أفريقية بطريقة ديموقراطية. والأسبوع الماضي احتلت سيرليف المرتبة ال 81 في قائمة فوربس لأقوى 100 سيدة في العالم. كما حصلت على جائزة نوبل للسلام العام الماضي مع مواطنتها ليما غوبوي واليمنية توكل كرمان. وهي حاصلة على الماجستير في الاقتصاد والسياسة العامة من جامعة هارفارد الأميركية. في القرن الماضي كانت هناك «امرأة حديدية» واحدة، هي رئيسة وزراء بريطانيا مارغريت ثاتشر (1979 إلى 1990)، وفي مطلع القرن الحالي ومع تعدد الوجوه النسائية السياسية، كانت رئيسة ليبيريا «امرأة حديدية»، لمواقفها القوية وسياساتها الواثقة والواضحة، إذ يتم تشبيه كثير من مواقفها وسياساتها بمواقف ثاتشر. دراسات الأممالمتحدة الاقتصادية تشير إلى أن القارة الأفريقية ما زالت تعدّ أكثر مناطق العالم فساداً، كما تشير دراسات للبنك الدولي وبرنامج الأممالمتحدة الإنمائي ومنظمة الشفافية الدولية إلى إخفاق دول القارة في التعامل مع الفساد ومواجهته، خصوصاً على مستوى الحكومات، فلربما تنتقل «عدوى» سيرليف الإيجابية إلى دول غرب أفريقيا على الأقل ويتأثر حكامها بما فعلت. سيرليف لم تولد وفي فمها ملعقة من ذهب، ولم تصل إلى كرسي الرئاسة من بوابة ناعمة، بل مرت بمحطات صعبة، من بينها النجاة من مذابح الحرب الأهلية في بلادها، والسجن والاعتقال التعسفي، لكنها امرأة تعيش همّ الوطن وغاباته وعاداته. وكما يقول محمد ولد المنى (صحيفة «الاتحاد» في كانون الثاني/يناير 2012)، بعد إعادة تنصيبها لولاية ثانية، إنه خلال الانقلاب الذي أطاح الرئيس ويليام تولبرت على يدي الرقيب صامويل دو، المنتمي لمجموعة «كران» العرقية الأصلية، نجت سيرليف من المذبحة التي قُتل فيها تولبرت نفسه وعدد من وزرائه، ثم تعاونت مع النظام الجديد الذي أطاح مؤسسة الحكم الليبيرية الأميركية (أقلية مسيطرة)، فتولت رئاسة البنك الليبيري للتنمية والاستثمار، قبل أن تغادر إلى الولاياتالمتحدة، وتنخرط في بعض الأنشطة الرامية إلى تكوين منظمة معارضة لنظام دو. وعملت في البنك الدولي خبيرة اقتصادية، ثم أقامت في نيروبي كنائب لرئيس المكتب الأفريقي ل«سيتي بنك». وفي إطار معارضتها لنظام دو، عادت سيرليف للبلاد العام 1985 لتشارك في الانتخابات الرئاسية كمرشحة لمنصب نائب الرئيس، لكنها وضعت تحت الإقامة الجبرية، وحكم عليها بالسجن عشرة أعوام بتهمة التحريض على الفتنة، ولم يطلق سراحها إلا بضغوط دولية. في التقويم العام للولاية الرئاسية الأولى لسيرليف، شهدت محاولات جادة لتصحيح الاقتصاد، ومكافحة الفساد، وأنشأت لجنة للمصالحة، وسعت لإحلال السلام، وخفض الديون، وتعزيز وضع النساء، وإحداث إصلاحات مؤسسية ما زالت تثير إعجاب المجتمع الدولي. شخصياً قررت البحث عن سيرتها من كتابها المعنون ب«هذه الطفلة ستكون عظيمة الشأن... مذكرات حياة حافلة لأول رئيسة أفريقية» تحكي فيه سيرة حياتها. يبدو أنها سيرة «امرأة حديدية» تستحق القراءة والكتابة في قارة تعاني من الفساد والفقر والجريمة والأمراض. [email protected] twitter | @JameelTheyabi