يتحدث ظافر يوسف كمن يكتب لحناً، ويُحرِّك يديه كأنه يقود أوركسترا. يتشعب الحديث معه إلى الحب والدين والسياسة والثورة والموسيقى والغربة والشعر. منفتح على التجارب الجديدة، وهو في حال بحث دائمة عما يثير فضوله الموسيقي. عازف العود التونسي، سيلتقي جمهوره مساء غد في بيروت، بعدما تأجلت سهرته التي كانت مقررة في العاشر من الشهر الجاري في القلعة الأثرية في بعلبك، بسبب الأوضاع الأمنية المتوترة شرق لبنان، ما دفع القيمين على «مهرجانات بعلبك» المنظمة للأمسية، إلى تغيير الزمان والمكان. لا يخفي يوسف حماسته لفكرة تنظيم أمسية موسيقية في مكان تاريخي، لما فيها من إيحاءات تحفز على الارتجال ربما، لكن التوتر الأمني كما في بعض البلدان العربية، يتحكم بكل شيء. يقول يوسف في حديث إلى «الحياة»: « سأقدم أعمال أسطوانتي الجديدة «ترنيمة للطيور» التي صدرت آخر السنة الماضية، والعرض، سيكون الأول في العالم العربي، بعدما قدمته في باريس وعدد من العواصم الأوروبية». العمل في تطور دائم بالنسبة إلى يوسف، خصوصاً أن ما سُجّل لن يطاوله أي تغيير أو تطوير، على عكس الأعمال التي تُقدم في الحفلات، إذ تتطور دائماً وتختلف من عرض إلى آخر وبحسب الحال الموسيقية. ويعتبر ذلك من أهم أسباب نجاح موسيقى الفنان التونسي الملتزم، خصوصاً أن مساحة الارتجال في المقطوعات تغدو أوسع، والحرية أكبر. وتحمل الأسطوانة أبعاداً جديدة في موسيقى يوسف الذي ترشّح مرتين لنيل جائزة محطّة ال»بي بي سي» عامي 2003 و 2006، فتهب علينا نفحات من الأسى والوجع اللذيذ، والتوازن ما بين النغم الأصيل والمعاصر. يقول: «أردت في هذا العمل، أن أتفلت من فرديتي، وأن أكتب الموسيقى التي أريدها وأشعر بها، وأن أعمل على التأليف فقط، من دون التفكير مثلاً بأن أكون أهم عازف عود، أو أقوى صوت، وما كنت أحاول أن أثبته خلال سنوات ماضية، تخطيته الآن لمصلحة المجموعة، فالتأليف أهم من أي شيء بالنسبة إلي». ويضيف: «ثمة أمور أردت إيصالها إلى المستمع، ونجحت في ذلك لأنني تلقيت العمل بعد تسجيله وفكرت به كمستمع وليس كمؤلف أو موسيقي، كنت أخجل سابقاً من الاستماع إلى موسيقاي، لكن الوضع اختلف حالياً». بعد انتهائه من تسجيل الاسطوانة والاستماع إليها مراراً، شعر يوسف أن ثمة تزاوجاً بين صوته وصوت آلة الكلارينيت (حسنو سنلنديريتشي)، كأنهما طائران يُحلقان سوية، يلحقان ببعضهما بعضاً، يفترقان ويتوحدان. الأنين ما بين الصوت والآلة، وفقدانه شخصا عزيزا، دفعاه الى عنوان صادم: «ترنيمة للطيور». يبتعد صاحب «ملاك» (1999) في عمله الجديد عن المؤثرات الإلكترونية، ويتقرب أكثر من الآلات الشرقية. ويضم الألبوم 11 مقطوعة من تأليفه وتوزيعه ويشارك أيضاً إنشاداً وعزفاً على العود مع نيلز بيتر مولفاير (ترومبيت) وكريستيان راندالو (بيانو) وحسني سنلنديريتشي (كلارينيت) وايتاغ دوغان (قانون) وإيفيند آرست (الكتريك غيتار، وأصوات إلكترونية) وفيل دونكين (دوبل باص) وشاندر ساردجو (درامز). يتنقّل يوسف بين الجاز والصوفية الشرقية. الشاب الذي تربى في الجامع في قريته الصغيرة شرق تونس، لا يعتبر نفسه متصوفاً ولكنه مهتم بالروحانيات، ولا عازف جاز على رغم عشقه لهذا اللون. ويقول: «الصوفية والجاز دمرا حياتي، نشأت في بيئة دينية، وكنت أقضي معظم وقتي في الإنشاد والاستماع إلى أغاني محمد عبدالوهاب، وبعد انتقالي من تونس إلى فيينا، تعرفت إلى الجاز وأغرمت به، لما فيه من حرية ومساحة في التعبير، وبت أحاول المزج في أعمالي بين جذوري وما اكتسبته حديثاً، فأنا كالاسفنجة التي تمتص كل شيء، وتخرج منها في ما بعد الخلاصة». ولكن ماذا بقي فيه من طبلبة القرية التي ولد فيها؟ يجيب: «لا تزال قريتي أساس امتدادي، فهي الجذور، وفيها تعلمت الموسيقى وتعرفت إلى ترددات صوتي، أتمنى الغناء فيها يوماً ما، لكن ضعف الإمكانات لا يسمح بذلك». يوافق صاحب «إلكتريك صوفي» (2001)، على أن المدن قادرة على تقديم إيحاءات موسيقية للمبدع، لكن ذلك قد لا يكون مباشراً، إنما بطريقة تراكمية. هو المتنقل بين تونس وفيينا وباريس ونيويورك وإسطنبول وسراييفو وبيروت، يشعر بأن ثمة موسيقى خفية للمدن، لكنها لا تظهر إلا في الوقت المناسب. أما زيارته للقدس فقصة أخرى، إذ دخلها سراً مع مجموعة من أصحابه، بعدما أنهى حفلة كان يحييها مع «تريو جبران في رام الله» عام 2012. يقول: « الشعور الذي منحتني إياه القدس، لم أشعر به سابقاً، شعور ممزوج بالحب والحزن والتفكير في حمل السلاح والهجوم على العدو. لعبت كرة القدم في القدس مع أصدقائي بعد منتصف الليل، حال من الفخر انتابتني وأنا في هذه المدينة العتيقة، شعرت حقاً بعروبتي وانتمائي إلى هذه القضية». وعن تقصيره في التعاون مع الشعراء العرب، يوضح: «ما زلت أشعر أن الحلاج وابن الفارض، يعبران عما أريد قوله بكل سهولة وبساطة، تعاونت عام 2012 مع الشاعر التونسي الصغير أولاد أحمد ضمن أمسيتي في مهرجان قرطاج، واعتبره أهم شاعر تونسي لما في كلماته من جرأة وتعبير عما نشعر به. لكنني مقصر من ناحية التعاون مع الشعراء العرب الآخرين، لكن شعر أبو النواس شريك عمر ومن الصعب تعويضه أو الاستغناء عنه، خصوصاً أنني أستعمله كمدخل وليس للغناء». أما عن علاقته بتونس بعد الثورة، فهو يشعر بإحباط مما آلت إليه الأمور، وكيف تغيرت الأحوال وتبدلت. ويرى أن ثمة تجارب موسيقية مهمة في بلده، لكن التأثير الغربي واضح فيها، من دون أي نفس مشرقي يعكس الثقافة العربية.