تبدو خريطة العمل السياسي بشقيه الحكومي والمعارض في الأردن اليوم وكأن الأزمة والإصلاح يتشكلان حول قانون الانتخاب أو تنظيم العملية السياسية مع الإقرار الضمني المتواطأ عليه بين الطرفين أن ثمة طبقة أو نخبة سياسية واقتصادية تسمى «الحكومة» تحتكر حالة دائمة ومهيمنة من التأثير وتوزيع الموارد والفرص، وتقابلها نخبة معارضة تسعى للضغط والتأثير في الحكومة (الطبقة) مستخدمة الرأي العام والتأثير الإعلامي والسياسي وأن إنجازها المأمول هو التأثير في الحكومة ودفعها إلى موقف جديد! ولكن الحكومة ولا المعارضة لا ترغبان في مشاركة المجتمعات والطبقات الاجتماعية والاقتصادية في تنظيم العملية السياسية والاقتصادية، ولا ترغبان في النظر إلى الأزمة باعتبارها محصلة لتسويات طويلة ومعقدة بين الدول والمجتمعات والأسواق. يمكن ملاحظة الأزمة والخلل في النظر إلى منظومة السلوك والتفكير السياسي المتبع على نحو واعٍ ومقصود أو ضمن تقاليد تاريخية للعمل السياسي، وفي أحيان كثيرة يكون هذا العقل غير مُدرَك تماماً أو غير معترف به، ولكنه بعامة يصلح لتفسير التاريخ السياسي الحديث للدولة وكذلك المواقف وأساليب إدارة الأزمات ومواجهتها، وهي منظومة بقدر ما نجحت في العقود الماضية؛ فقد أنشأت حالات وأزمات متراكمة جعلت الإصلاح والحراك السياسي القائم اليوم يواجه تحديات كبرى، أو لنقل إننا اليوم في مواجهة مرحلة وأزمات جديدة تحتاج إلى عقل سياسي جديد ومختلف أو على الأقل مراجعة الأدوات السياسية والاجتماعية المتبعة في الإدارة وتنظيم العلاقات بين الدولة والمجتمع، وبين الدولة والقطاع الخاص، وبين المجتمع والقطاع الخاص. لا يمكن تصور الإصلاح من غير وجود قوى إيجابية تحرك المدن والسوق وتنظمها وتنشئ علاقة إيجابية معها، وتشارك/ تنافس/ تواجه السلطة والمجتمعات، وتعيد معاً (المدن والأسواق والسلطة) إنشاء قواعد عادلة ومتفق عليها لتنظيم القوة والتأثير والنفوذ، فلا يقدر على الإصلاح من لا يملك القوة والتأثير، والإصلاح في حقيقته وجوهره إعادة توزيع الموارد والتأثير والقوة، وليس الإصلاح مطالب وعرائض واستجداء لدى السلطة والشركات، وإذا لم تفهم المجتمعات والدولة الحراك الناشئ وكل حراك اجتماعي وسياسي في التاريخ والجغرافيا على أنه تنافس وضغط لإعادة توزيع التأثير، فهي تتسلى وتضيع وقتها، السلطة طبعاً تفهم ذلك، ولكن المجتمعات بحاجة إلى أن تدرك ذلك. ولذلك فإن النظر إلى مبتدأ الخلل في ملاحظة علاقات القوة والتأثير والتنافس في المدن والأسواق، ويبدأ الإصلاح بالتحرر من المعادلة المفروضة على علاقة الناس بالمدن والأسواق. في فهم العقل السياسي للدولة الأردنية يجب أن نتذكر ونحتاج الى تكرار هذه الملاحظة أن الدولة الأردنية الحديثة أنتجت وأعادت إنتاج المجتمعات والأسواق وصوغها، وهذا مختلف عن معظم الدول والمجتمعات في العالم، حيث كانت الدولة ومؤسساتها تعبيراً عن تفاعلات وتطورات السوق والمجتمع،... ليس لأن المجتمعات والأسواق لم تكن قائمة في الأردن قبل قيام الدولة الحديثة، ولكن عمليات التحديث التي أُجريت كانت تسلك وبوعي مسبق إلى إنشاء نخب ومؤسسات وأسواق ومجتمعات جديدة مختلفة عن المجتمعات والأسواق التقليدية القائمة، لماذا لم تطور الدول المجتمعات والأسواق؟ لماذا لم تشركها في عملية التحديث؟ لماذا لجأت إلى تحطيمها/ إلغائها/ تهميشها/ تجاهلها/ إقصائها؟ الكثير من عمليات التحديث كان يجرى بحسن نية بهدف التطوير والتحديث، كما أن بعض القوى الاجتماعية قاومت التحديث، لكن الكثير من عمليات بناء الدولة رافقها إنشاء نخب جديدة مختلفة عن سياق المجتمع المحيط وتطوره! هذه النخبة التي تشكلت أنشأت منظومة جديدة من العلاقات والقواعد لمصلحتها، جعلتها نخبة مغلقة، وتعمل بقسوة ووعي على استبعاد جميع فئات المجتمع وتهميشها، بل إنها تبدو وكأنها في حالة عداوة وحرب شبه معلنة مع المجتمع والأعمال والمشروعات والحركات الاجتماعية، وألحقت بها كل/معظم مؤسسات المجتمع والمصالح الاقتصادية والديناميات الاجتماعية، مثل النقابات والبلديات والإعلام، فضلاً عن فرص التوظيف والتعليم والابتعاث، وتشكلت أجيال متعاقبة من النخب، وأجيال من المهمشين. واليوم، فإن الإصلاح لا يمكن أن يكون إلا مراجعة استراتيجية للتاريخ السياسي وتغيير كثير من قواعد العمل والتفكير. * كاتب أردني