ينحاز الشاعر الفلسطيني مازن معروف في مجموعته الشعرية الثانية «ملاك على حبل غسيل» الى رؤية الواقع من حدقة الغرابة. إنه يفعل ذلك منذ العنوان الذي يأخذنا نحو ملامسة تستعير الغرابة للدلالة على لا واقعية ما نرى وما نسمع من كلّ ما حولنا. مازن معروف في «ملاك على حبل غسيل» (منشورات رياض الريس – بيروت – 2012) يقترب من «قصيدة التفاصيل» ولكن بروح أخرى ورؤى مغايرة. القصيدة هنا تتأمل شواهد الواقع فتراها في جزئياتها أكثر من اهتمامها بجزئيات الأحداث السَردية. هي بهذا المعنى شهادة حدقة تعيد بناء ما تراه على هواها، وهو هوى يزيح الصورة الشائعة، ويؤسس لتفاصيل أخرى يراها الشعر وينتبه الى فسيفسائها: «على طرف الباب، تتكئ سلّة المهملات الصغيرة في غرفتي». يبتغي مازن معروف «لوحة»، فيؤسس مفرداتها بصور شعرية، لكنه سرعان ما ينطلق منها الى ما هو حميم وشخصي، فالواقع والروح الفردية يتبادلان الفعل، يفعلان وينفعلان، على نحو نجد القصيدة معه مثقلة بحزن شفيف: «جثتي الرطبة أكوّرها بحنان بين يدي، ثم أجففها بآخر نفس زفرته قبل أن أموت». في «ملاك على حبل غسيل» يضم مازن معروف صوته الى عدد من الأصوات الشعرية الفلسطينية الشابة التي تتنكّب عن تقليدية الانغماس المباشر في بانوراما التراجيديا الفلسطينية، وتذهب بدلاً منها نحو قراءات روحية لأحزان الفلسطيني واغتراباته الفردية وعصف الوحدة في أركان روحه. هي معادلة أخرى، مختلفة تماماً، بل إن الشعر خلالها يختبر جدارته في تعبيريته بجماليات فنية كما برؤى المخيلة وأفكارها: «عندي حلم بسيط أن أصنع كوكباً آخر يتسع لجميع أعدائي أسبقهم إليه وأسكنه موقتاً. نقضم قطعه اللذيذة حين نجوع... القطعة الأخيرة منه القطعة الأخيرة فقط تستحقُ أن نتقاتل لأجلها». ننتبه هنا بالذات الى قصائد تتخفف من ثقل الغنائية التقليدية في الشعر الفلسطيني «الوطني». أعني هنا احتفال الشعر بما هو حميم وخاص ينزُّ بالتأكيد من وجع المأساة الوطنية، ولكنه لا يبتغي تصوريها في عموميتها. ليست القصيدة هنا «بانوراما» الحدث الوطني، ولا سردية تروي تفاصيله، بل تحقق دورها في انتباهها الشفيف الى المحنة الفردية. سأقول إن «ملاك على حبل غسيل» لا تبحث عن بطولة من أي نوع، فالحدث العام الذي قبض طويلاً على روح الشعر الفلسطيني ونصوصه لا يلبث هنا أن يخلي مكانه لاستقراءات عميقة لكل ما يحدث. في المجموعة شغف بالرَسم: هنا بالذات يستعيد الشعر لياقته إذ يعود إلى حقائقه الأولى، أعني العلاقة الفاعلة بين أفكاره وبين ريشة الفن المسكونة برغبة التعبير من دون الارتهان إلى أية «ضوابط» تنتمي الى النقد التقليدي الوفي لتقليدية الشعر: «أدرك أنني لم أعد طفلاً لهذا السبب، الدب الذي احتفظت به كل تلك الأعوام سألقي به من نافذة الدور السابع بلا رأفة... محتفظاً فقط بالحبل الرقيق الذي خاطه أحدهم فوق وجهه على شكل ابتسامة. ذلك الحبل... أظنّ أنني أحتاجه». قرأت مجموعة مازن معروف «ملاك على حبل غسيل» فأعادتني إلى روح تجربة شعرية فلسطينية رائدة لم تعد متداولة كثيراً هذه الأيام، هي تجربة الشاعر الراحل توفيق صايغ. لا يتعلق الأمر هنا بتشابه أو تناص من أي نوع أو درجة، ولكن تحديداً باحتفال القصيدة بما هو شخصي، حميم وإنساني «خالص»، وبما يجعل الشعر تعبيراً فنياً حيوياً عن غياب التوازن في حياة تطفح بالألم والاغتراب. مازن معروف يزجّ قصيدته هو أيضاً في حرائق الروح، والتي كانت تبدو حرائق «صغيرة» وشبه هامشية، ولكنها على رغم ذلك تناسب الشعر وتليق به. انها قصائد التجربة الثانية لشاعر شاب يحمل صوتاً خافتاً يصلنا ونسمعه بحب.