يحلو لي أن أصف قصيدة رائد وحش بأنها نوع من «الفوضى الشعرية الخلاّقة»، فهذا الشاعر الشاب يتذكر – ربما أكثر من غيره – ما تكتنزه قصيدة النثر من جموح نحو حرية مطلقة، لا تتعلق بالشكل الفني وحسب، ولكن أساساً بالاشتباك المباشر مع موضوعات وعوالم وضعها الشعراء والنقاد معاً خارج مساحات الشعر. هو بمعنى ما ينتسب لتلك العوالم «الهامشية» التي ترى العالم والحياة من حدقة المنبوذين. هو يستعير تلك الحدقة أو يتمثّلها على نحو جامح يدفع إلى الشعر، مشاهد وصوراً وأشخاصاً وأماكن، تعجُ بكلّ ما ظلّ الشعر السائد «يترفع» عنه، بل ويفاخر بإغلاق الأبواب دونه. قبل سنوات قليلة أصدر رائد وحش مجموعته «لا أحد يحلم كأحد» ضمن اثنتي عشرة مجموعة شعرية نشرتها الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية، وكانت لتلك المجموعة خصوصياتها التي قدمت صوته في زحام حركة قصيدة النثر في سورية بكل ما تزخر به من أصوات وأشكال وحتى تيارات ورؤى ووجهات نظر. في مجموعته الشعرية الجديدة «عندما لم تقع الحرب» ( منشورات – دار كاف – عمان – الأردن – 2.12 )، نقرأ سرديات شعرية تتجوّل في أزقة لا حصر لها من الموضوعات والأفكار، وحتى «الأخبار» الواقعية، وكأن الشاعر يحتفل بما يحدث... كل ما يحدث وإن على طريقته الخاصة. حدقة الشعر ترى، ولكنها ترسم رؤيتها بخطوط أقرب للفانتازيا كي لا نقول السوريالية، التي تبتعد كمنظومة معروفة، لكنها لا تغيب كأسلوب في رسم المشهد أو تصوير الحالات المختلفة : «بعد قليل تتهاوى الأرض كي يربحوا الجولة الأولى. لا تثقوا بالشجر سوف تستسلم للحرائق، ولا تثقوا بالبيوت ستسرع راجعة حجارة قبل وصول القنابل بساعات». قارئ مجموعة رائد الوحش «عندما لم تقع الحرب» سوف تعصف به المشهديات الحادة، المشغولة من تفاصيل وجزئيات الخراب. هو خراب الحياة الواقعية، في زمن القلق والمصائر المجهولة، والشعر إزاء ذلك يجد نفسه في سياق مرثية كبرى للخراب العظيم. أتوقف هنا بالذات أمام شغف رائد وحش برسم المشهد – ولا أقول الصورة – فهو يرغب بجموح أن يقدم سردية «أخرى» تتكئ على شهادة الروح والبصيرة أكثر من اتكائها على رؤية العين المجرّدة والتي تبدو بدورها مثقلة بالدهشة. هي شعرية تنتسب للدهشة وتلتصق بها، فهنا تبدو الغرابة صنواً للشعر، بل هي تستلهمه، تحاوره ويحاورها، وتتشكل به ومعه على نحو يدفع الشعر نحو تصعيد يصغي لنبض الخراب، ويطلق عصف الدهشة: قال الرجل القاعد في الحانة للكرسيّ الفارغ «عندما تقع الحرب سيحب الناس الناس إذ يرجعون شعباً: المعلمون يضيئون السُبورات بالشموع ... العشاق يحسبون الثواني وأجزاءها للعبور... الأمهات يتقاسمن مؤن البيوت». قصيدة رائد وحش مزيج مكثّف من لوعة أمام الوقائع، وإصغاء لهتافات الروح الداخلية، فعبر كل مشهديات الخراب التي تنثر القصائد تفاصيلها نقع على صوت شعري خافت، ينحاز صاحبه لمقاربة الحياة بعيداً من اللغة الصاخبة ذات الرنين. رائد على العكس من ذلك تماماً، «يستلُ» حزنه الشفيف ليكتب بمداده لوعته أمام ما يرى وما يسمع. لعلّ هذا بالذات ما يجعل قصائد هذه المجموعة الجديدة تختار لغة شعرية مشحونة فيها الكثير من شجن يمنح سردياتها كثيراً من دفء العلاقة مع الشعر. سأقول بلا تردد أن مجموعة رائد وحش «عندما لم تقع الحرب» تخرج من مألوف قصيدة النثر السورية الجديدة، وتمتحن نفسها في مغامرات شكلية لا تتوقف إلا لكي تثب نحو مغامرات أخرى، ورائد خلال ذلك كله ينجح في اتكائه على درامية شعرية زاخرة بالحياة إذ هي تلامس الحياة وتعبّر عنها بجماليات فنية.