ما يمر به العالم اليوم من حولنا القريب والبعيد أمر غاية في التعقيد والدقة والخطورة، أمر يستعصي على الفهم أحياناً، بل غالباً. يمكن لنا أن نذهب إلى أننا في مرحلة تختلط فيها الأشياء لدرجة الغموض فيصعب معها معرفة القرار الصحيح واتخاذه وتنفيذه. ما يجري في العالم من دون استثناء، وما جرى ويجري في عالمنا العربي من مخاض شعبي ينبئ عن نفسه بأشكال متعددة. ما حصل في تونس ومصر وليبيا واليمن، وما يحصل في سورية والسودان، يستدعي منا التوقف والتفكر والتأمل. ما يجري في تونس ومصر والسودان ودول أخرى من جدل حول إعادة صياغة الدساتير، ومحاولة وضع صيغ جديدة تتفق وحاجات ورغبات الإنسان الفرد وجدلية الدين والدولة، وهل هما متصلان أم منفصلان؟ وهل يجتمعان أم ينفردان؟ نقول إن ذلك الجدل أمر صحي وطبيعي مرتبط بثلاثة أمور أساسية: تطور المجتمعات ذاتها؛ انحراف الفهم والتطبيق الديني بسبب من يظنون أنهم حراسه الأصليون من كهنة وكهنوت؛ وأخيراً، سوء الفهم للدولة وعدم تطوير هياكلها وأركانها وآلياتها، ما أدى إلى انحرافها عن أهدافها الأساسية. لذا نجادل بأن الأساس هو البعد الاجتماعي نظراً لارتباطه الوثيق بالإنسان الفرد الذي تطور بشكل غير مسبوق من ناحية، وعدم تمكن الهياكل السياسية التقليدية مع أنظمتها وقوانينها والقائمين عليها من مجاراة، أو حتى معرفة كنه وأبعاد تلك التطورات في المجتمعات كافة، من ناحية أخرى. لا يهم كون الدين والدولة متصلين أو منفصلين، الاثنان، على سبيل المثال، كالماء؛ عذب فرات وملح أجاج، بينهما برزخ لا يبغيان. القائل بفصل الدين عن الدولة، نقول له افعل ولا حرج، والقائل بوصل الدين والدولة، نقول له، أيضاً، افعل ولا حرج. لكل جعلنا شرعة ومنهاجاً. هكذا قضي الأمر الذي فيه تستفتيان. المهم والأهم هو الإنسان الفرد الذي شاء له خالقه أن يعيش اليوم في حال أفضل بكثير من أحوال أفراد ومجتمعات وأمم سبقت وعاشت وصاحبت حتى الأنبياء والرسل. هذه هي سنة الخالق التي لن يجد لها أحد تبديلاً أو تحويلاً. ارتبط الدين بالدولة في أوروبا لقرون طويلة حتى تم الفصل والانعتاق في ويستفاليا مع ظهور ملامح الدولة الحديثة، بحيث بقي الدين كمكون روحي، متمثلاً في العبادات تحت إدارة الأفراد أنفسهم، وانتقل القسم الأخلاقي متمثلاً في المعاملات إلى الدولة عبر قوانين تنظم حياة المجتمع لمصلحة الإنسان الفرد. الإنسان الفرد هو وحده المعني بالحياة الدنيا والآخرة - للذين يؤمنون بها - وهو الوسيلة والهدف، وما التجمع أو الاجتماع وبالتالي المجتمع إلا خيار، حتى لو كان اضطرارياً، لذلك الإنسان الفرد. نزلت الأديان السماوية وبعث الأنبياء والرسل لتأكيد حقيقة هذا المعنى عبر شرائع وتشريعات تؤسس لقيم عقائدية ونظم أخلاقية متطورة عبر التاريخ، ولوضع بنية تحتية تسير عليها البشرية، ورؤية مستقبلية تنير الطريق للنمو والارتقاء لإعمار الأرض، بغية الوصول إلى حرية إنسانية فردية تتشكل وتأخذ مداها عبر ما يتيسر لها من فضاء معرفي وأخلاقي، حتى ختمت تلك الرسالات السماوية قبل 14 قرناً، إيذاناً بذلك الإنسان الفرد الذي أنسنته الأديان أن يكمل وحده، ومن دون تدخل من أحد، الطريق لإعمار الأرض كما يحب ويهوى مرتكزاً على مكون روحي مهم، ولذا يعتبر الدين المكون الروحي الرئيس الذي يساعد البشر كإنسان فرد في تجاوز المحن والمتاعب التي غالباً ما يخلقها لنفسه. ختم الرسالات هو شهادة إلهية بأن هذا المخلوق «الإنسان» تَخرج في جامعة القيم الروحية والأخلاقية ولم يعد بحاجة إلى تدخل السماء عبر رسل وأنبياء، ويمكن له أن يسوس نفسه بنفسه عبر أي منظومة دنيوية تفيده لكي يصل إلى أهدافه التي لن تحيد عما تم تأسيسه عبر الزمن من مكون روحي. المثير، أنه على رغم خصوصية بعض الأديان وعمومية البعض الآخر، كان ولا يزال التدخل البشري في تطبيق الرسالة الإلهية هو المعكر لصفو وصفاء الأديان، ونسي أولئك البشر الأفراد أن الحكمة الإلهية تقتضي عدم التدخل وتقضي بالاصطفاء لمن يمكنه التدخل في تطبيق تلك الرسالات السماوية، ويكون ذلك عبر الرسل فقط. المحصلة، أن اكتمال الدين عبر رسالات سماوية متعددة ورسل متعاقبين واستقرار المنظومة الأخلاقية بالرسالة والرسول الخاتم يعني اكتمال الرؤية والرسالة والأهداف لكي ينطلق التنفيذ الفعلي. ويمكن لنا أن نجادل بأن انحراف الإنسان الفرد تم بسبب التشويش على الدين - أياً كان هذا الدين أو ذلك المعتقد - وإخراجه من محتواه وإدخاله في طقوس لا تؤدي إلى ما يهدف إليه الدين. بمعنى آخر، الإبقاء على الشكل من دون المضمون والمظهر من دون الجوهر أفقد الدين محتواه وبالتالي أهدافه. الدولة، من ناحية أخرى، هي الإطار الدنيوي الذي خلص إليه الإنسان وتفتق عنه ذهنه بعد صراع طويل بين الإدارة الدينية والمدنية في المجرد والمشخص للأفراد والجماعات والمجتمعات لكي يتغلب الإنسان الفرد على مشكل الاحتكاك الاجتماعي والمجتمعي الذي اضطرته إليه الحياة ويصل إلى رغباته وحاجاته التي يراها مكملة لمفهومه الفردي في الحياة. ولذا يمكننا أن نجزم بأن أي دستور أو عقد اجتماعي لا يمكن له أن يحيد عن خمسة عناصر هي: الحياة؛ الحريات؛ الحقوق؛ الحكم؛ والحرب. خروج الدولة عن مسارها الموصل إلى أهدافها يتأتى من ضعفها بسبب جمود الفهم لهذا الهيكل والإطار السياسي وعدم تطويره تبعاً لرغبات وحاجات المستفيدين منه والذي تم تصنيعه وإنشاؤه في الأساس بهم ومن أجلهم. وهنا أيضاً نجزم بأن افتقاد الإنسان الفرد للإدارة السياسية الواعية التي تصل به إلى حاجاته ورغباته يُخرج الدولة عن مسارها والهدف الذي أنشئت من أجله. الإبقاء على هياكل الدولة والتمسك بأركانها، على رغم عدم تحقيقها لحاجات ورغبات الإنسان الفرد، هو تمسك بالشكل من دون المضمون، لذا نجد أن الإنسان تعامل مع الدين والدولة على أساس تطورهما الذي يصاحب ويواكب تطوره، فالقوالب والهياكل الجاهزة الجامدة، سواء في الدين أو الدولة، يعزف عنها الإنسان بطبعه. عدم تغير / أو تطور الهياكل السياسية التقليدية التي نشأت أصلاً لتحسين إدارة المجتمعات وتحقيق رغباتهم وحاجاتهم من الدولة كإطار سياسي شامل يعتمد على أربعة أركان هي: السكان؛ والإقليم؛ والحكومة؛ والسيادة، نقول: أخرج ذلك الجمود، أو عدم التطور إلى انحراف الدولة عن مسارها، وبالتالي عدم وصولها إلى الأهداف المرجوة. وإذا نظرنا إلى الأركان الآنفة الذكر نجد أنها لم تعد تحمل المضمون أو الأهمية ذواتهما. فالسكان لم يعودوا مرتبطين جسدياً أو مادياً بإقليمهم وأرضهم، وباتوا يهيمون في شتى البقاع والأقاليم بحثاً عن رغباتهم وحاجاتهم. الإقليم هو الآخر، أصبح بقعة جغرافية محلية من الأرض ليس إلا، منها وفيها ما يسد رغبات وحاجات الإنسان الفرد ومنها، بل معظمها قصر عن تأمين الحاجات الأساسية التي تطورت بشكل جذري، أما الحكومة فأضحت مجموعة من الأفراد تتعاقب على الإدارة السياسية، وغالباً ما تنسى الهدف الأساسي من وجودها، بسبب اجتهادها أو جهلها لما يحتاجه ويرغبه الإنسان الفرد. الإنكاء في ومن ذلك هو أن تصبح بعض الحكومات حارسة على قيم الدولة فتنتهي بتقويض رسالتها، تماماً مثل ما يفعل حراس الأديان عندما يتدخلون فيحرفون الدين عن أهدافه ويقلبونه إلى طقوس جامدة. أما السيادة وما إدراك ما السيادة، التي تعتبر صنم الدولة الحديثة لتسللها من مفهوم ديني ميتافيزيقي وأحد أهم ركائزها فقد أمست متطورة حتى لم يعد ممكناً الاستقواء بها، فإما أن تفرط الدولة في ممارساتها، أو تقتل شعبها وتمتهنهم، أو أن تعزل الدولة نفسها ومجتمعها عن بقية الدول والمجتمعات بحجة السيادة. نخلص إلى أن عدم فهم وإدراك الحاجات والرغبات للأفراد، خصوصاً الأجيال الجديدة، وبالتالي المجتمع بكل مكوناته وشرائحه يزيد من تفاقم المشكلات بين الفرد والمجتمع كقبيلة أو شعب أو أمة وبين الدولة، إذ تصبح الأخيرة عاجزة عن القيام بمهمتها الأساسية وهي الإدارة السياسية. ولعلنا نشاهد ما يمر به عالم اليوم من اضطراب وفوضى في كثير من مناحي الحياة وما تزخر به نشرات الأخبار من حوادث ونستغرب! ماذا حدث ويحدث؟ ثم يتولد السؤال الساذج: لماذا؟ ومن ثم ينتج بعد ذلك سؤال هو أكثر سذاجة وتعقيداً، في الوقت نفسه وبالقدر نفسه: كيف الخروج من هذا المأزق، أو من تلك المعضلة؟ * باحث سعودي. [email protected]