تصوّر الفرنسيّة شانتال شوّاف (باريس 1943) في روايتها «روّاد العتمة» (ترجمة راغدة خوري، دار علاء الدين، دمشق، 2012) كيفيّة تقاطع مصائر بعض البشر، عبر علاقة غريبة تجمع بين امرأتين، واحدة منحدرة من الشرق وأخرى من الغرب، تعيشان العزلة والغربة والتهميش في ضاحية مُهملَة من ضواحي باريس، ضاحية تطلق عليها ضاحية الهلاك، تحوي المهاجرين والمشرّدين والمجرمين، ويسودها جوّ من الفوضى والتلوّث. تمهّد شوّاف لروايتها بحكاية ليز التي تُوكل إليها دور الراوي تالياً، لتروي تفاصيل حياة ملؤها البؤس والأسى. ليز التي كانت ابنة غير شرعيّة لرجل لم يعترف بها إلّا على فراش الموت، وكان اعترافه بمثابة تخفّف من الإثم أكثر من كونه إقراراً بما لها من حقوق، ولم يثبت اعترافه في الأوراق الرسميّة. تحكي ليز سيرتها التي تنجدل مع سيرة الفتاة الشركسيّة يشار؛ ابنة زوجها الذي ستتزوّجه وهي في سنّ صغيرة، العلاقة التي ستشكّل نقطة انعطاف في حياتها، وتكون لها الداء والدواء في الوقت نفسه. تعيش ليز الاغتراب وتشعر بالعتمة مرتحلة معها في قلبها وروحها، لا تأبه لاختلاق يوم ميلاد جديد لها، تتألّم لأنّها فقدت العطف والمحبّة اللذين لن يظهرا لها إلّا في الحلم، أو في اللغة المضيئة للأرواح العائدة من عتمة الموت. تشعر أنّ الخديعة ستلحق بها كلّ حياتها، وهي التي لفظها والدها مع أمّها واعتبرهما خطيئة، وتبنّى عوضاً عنها فتاة أخرى مع زوجته الشرعيّة، لتحتلّ تلك الفتاة محلّها، وتصبح وريثة عائلتها، وتظلّ ليز تعاني التشظّي والهويّة المجزّأة، إذ تمّ تبديل حياتها بحياة الفتاة المتبنّاة بياتريس، بحيث لم يعد بالإمكان تصحيح المغالطة التي حذفتها وخربشت اسم بياتريس محلّها، وصدّق عليها من جانب كاتب عدل مرتشٍ. ولأنّها تحاول تفهّم فوضويّة العالم وانعدام القوانين فيه، فإنّها تسعى إلى التأقلم مع الظلم، هاربة من التهميش والتنكّر، لتبدأ حياتها متجاهلة الماضي بكلّ آثامه، مقرّرة تناسي مَاضيها لتبحث عن وجود مستقبليّ لها. ولأنّ اسمها ونسبها سُلخا منها، ومُنحت بدلاً منهما النكران والعذاب، تقرّر نجدة الضحايا وتقديم المعونة لهم أينما صادفتهم، فتهديها الأقدار ضحيّة على مقاس ألمها ومعاناتها وعذابها، حين تتزوّج مهاجراً يكبرها بعقود، وتسكن معه في منزل بائس في ضاحية الهلاك على تخوم باريس. جوستينيان الذي تتزوّجه ليز، تظنّ أنّه سيعوّضها عن الأب المفقود، تحتاج معه الى الكثير من الرعاية والعاطفة، وكانت مسلوبة الإرادة، ولم يكن لديها رغبة بالعيش معه، لكنّها لم تكن تملك أيّ خيار سواه، هو الذي استولى عليها وكان سبباً في عذابها وتضحيتها لاحقاً. يهجرها جوستينيان بعد أقلّ من عام على زواجهما، يمرّان فيها بانتكاسات كثيرة، ظلّت فيها ليز وحيدة شبه مهجورة في مُنعزلها، متوحّدة مع الطبيعة تراقب الكائنات الحيّة في دورتها الطبيعيّة، تتماهى معها في أنشودة الحياة، تشعر بقربها الشديد من كائناتها، تجد نفسها «ملتهبة، متأجّجة كما الليل، مجرّد امرأة صغيرة حسّيّة نصف عذراء ضحّى بها رجلٌ ما...»، تشعر بالراحة المطلقة مع كائنات الغابة، تصف شعورها بأنّه حنين للعودة الى الجذورها الحيوانيّة، تلبس الحداد على حياتها الجنسيّة، تنكر شهواتها، تقمع غرائزها، تطرد نفسها من عالم الرقّة منفيّة على شاطئ بحيرة نائية، لاجئة مبتكرة من عالم اللحم والجلد والدم الأموميّ، لتتحطّم طفولتها غير القابلة للاستئصال بحضور الموت. تنتمي ليز الى الطبيعة كردّ فعل قاسٍ على عدم انتمائها الى عالم البشر الذي عاملها بوحشيّة ونبذها بقرف، تبتكر لنفسها عائلة من الأزهار والأشجار والحيوانات، تفتنها حياة البساطة والصدق، تتشبّث بها في مواجهة الأعاصير، وهي الهاربة من مآسٍ تغرقها، لترتحل خارج الزمان والمكان، لكنّها تظلّ مقيّدة بانتماء إلى السجن الذي لا يرحم، حيث الضجر المميت يخطفها من عالم الأحياء. تقرّ بأنّها لا تهرب من الكآبة، بل بالعكس، تكتمل فيها، تغوص في داخلها، تعترف بأنّها كانت عاشقة لكن من دون وجودٍ للحبّ. قبل أن يتركها جوستينيان، يعترف لها بهويّته الحقيقيّة وبأنّ اسمه محمود، وهو شركسيّ الأصل، وله ابنة هي في عمرها تقريباً، من زواج سابق غير مسجّل لدى السجلات الرسميّة، وأنّ زوجته الشركسيّة توفّيت وهي تضع طفلتها يشار، التي لم تعد تحتمل البقاء في المدرسة الداخليّة في باريس، ويخبرها أنّها ستعيش معها في البيت. كان مجيء يشار بمثابة حبل النجاة لليز، وجدت فيها الأخت التي لم تحصل عليها، والأمّ التي لم تعد موجودة، والابنة التي لم تكن لديها، والتي قد لا تحصل عليها أبداً. ولتجد فيها التطرّف؛ الذي لولا تقاربها الفجائيّ الصادم مع الشرق، لما كانت قد عرفته قطّ. كلّ ذلك عمل على تغيير حياتها في ضاحية الجريمة والعنف والنبذ. تجد ليز نفسها محكومة بقدر الدفاع عن يشار وحمايتها، تهرع لنجدتها، تهرع للنداء الملحّ للحياة التي تعود إليها تحت صيغة القلق والجنون، لتجد من خلال سوء حظّ الفتاة المجهولة صورة أختها الضائعة؛ الحقيقيّة. تقضي ليز مع يشار أيّاماً عصيبة، تخالطها السعادة بوجود رفيقة تُؤنس وحدتها الموحشة، لكنّ الوحشيّة التي كانت تطبع سلوك يشار ظلّت مثار رعب فظيع لها، وهي التي دأبت على مراعاتها ومسايرة جنونها وجموحها متجاهلة عدوانيّتها وغرابتها، لأنّها تراها الضحيّة التي لا مناصّ من الأخذ بيدها، وحمايتها حتّى من نفسها، مكابرة على جراحها ومتجاوزة مصاعبها، لكنّ صمودها لا يلبث أن يتلاشى أمام تعاظم جنون يشار المدمّر، ما دفعها إلى الاستعانة بالشرطة، ووضعها، بموافقة أبيها ودفعه، في مشفى للأمراض النفسيّة، وهناك تعرّضت لشتّى صنوف العذاب، وتجرّعت الأسى المضاعف مع تجرّعها لكمّيات من الأدوية أهلكت جسدها الفتيّ، وغيّرت تركيبتها الفيزيولوجيّة، بحيث بدت شائخة قبل أوانها، ليتبيّن لاحقاً، في الوقت الضائع، خطأ تشخيص حالتها، وأنّها لا تعاني من أيّ انفصام في الشخصيّة، وليكون خطأ الطبيب في تشخيص حالتها، وخطأ مراكمة الأدوية، سلسلة من الأخطاء في حياتها المبنيّة على خطيئة الآخرين، تماماً كليز التي بدأت تلوم نفسها، وتحاول التخفيف من وطأة حالتها المتفاقمة بمساعدتها مهما كلّفها الأمر. في ضاحية الهلاك ينهار الجسد على رغم مقاومة الروح، حيث يتعرّض الجسد للإنهاك بالتسميم البطيء، تستكمل يشار دور الضحيّة البريئة، تدفع ضرائب أفعال غيرها، وكأنّها الخطيئة المرتحلة عبر الزمن، تحمل الآثام، تتوحّد مع ليز التي تثقل خطايا الآخرين كاهلها. تكون المرأتان فريستَيْ واقع وحشيّ وتاريخ ظالم، تتساعد الضحيّتان على التداوي من جراحهما الأزليّة، كأنّهما نقطة حوار الشرق والغرب، في حين أنّهما مجرّد امرأتين تتقاسمان سوء الطالع، أينما تحلّان تنفتح أمام أنظارهما ثغرة تطلّ على إفلاس العالم، تتأرجحان بين الهروب والفرار، تشكّان بأنّ الموت والجنون والوحدة والانتحار والقهر والاضطهاد أعداء متربّصون بهما لا ينفكّون يلاحقونهما. تعيشان عتمة الأعماق وقفص الذوات. تراودان العتمة الحاجبة عساهما تفلحان في تبديدها والتمتّع ببعض النور، تبحثان عن شعاع ينبثق من كآبة تتلبّس روحيهما، ويظلّ الدم الممزوج بأسى السنين ودم الأسلاف ينحدر حافراً عميقاً في الروح.