حلاوةُ ولاةِ الأمر    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    وطن الأفراح    حائل.. سلة غذاء بالخيرات    حملة «إغاثة غزة» تتجاوز 703 ملايين ريال    الشيباني يحذر إيران من بث الفوضى في سورية    رغم الهدنة.. (إسرائيل) تقصف البقاع    الحمدان: «الأخضر دايماً راسه مرفوع»    تعزيز التعاون الأمني السعودي - القطري    المطيري رئيساً للاتحاد السعودي للتايكوندو    "الثقافة" تطلق أربع خدمات جديدة في منصة الابتعاث الثقافي    "الثقافة" و"الأوقاف" توقعان مذكرة تفاهم في المجالات ذات الاهتمام المشترك    أهازيج أهالي العلا تعلن مربعانية الشتاء    شرائح المستقبل واستعادة القدرات المفقودة    منع تسويق 1.9 طن مواد غذائية فاسدة في جدة    46.5% نموا بصادرات المعادن السعودية    أمير نجران يواسي أسرة ابن نمشان    مليشيات حزب الله تتحول إلى قمع الفنانين بعد إخفاقاتها    الأبعاد التاريخية والثقافية للإبل في معرض «الإبل جواهر حية»    63% من المعتمرين يفضلون التسوق بالمدينة المنورة    جدّة الظاهري    العناكب وسرطان البحر.. تعالج سرطان الجلد    5 علامات خطيرة في الرأس والرقبة.. لا تتجاهلها    في المرحلة ال 18 من الدوري الإنجليزي «بوكسينغ داي».. ليفربول للابتعاد بالصدارة.. وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    لمن لا يحب كرة القدم" كأس العالم 2034″    ارتفاع مخزونات المنتجات النفطية في ميناء الفجيرة مع تراجع الصادرات    وزير الطاقة يزور مصانع متخصصة في إنتاج مكونات الطاقة    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    الدرعان يُتوَّج بجائزة العمل التطوعي    أسرتا ناجي والعمري تحتفلان بزفاف المهندس محمود    فرضية الطائرة وجاهزية المطار !    أمير الشرقية يرعى الاحتفال بترميم 1000 منزل    الأزهار القابلة للأكل ضمن توجهات الطهو الحديثة    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    واتساب تطلق ميزة مسح المستندات لهواتف آيفون    المأمول من بعثاتنا الدبلوماسية    تدشين "دجِيرَة البركة" للكاتب حلواني    مسابقة المهارات    إطلاق النسخة الثانية من برنامج «جيل الأدب»    نقوش ميدان عام تؤصل لقرية أثرية بالأحساء    وهم الاستقرار الاقتصادي!    أفراحنا إلى أين؟    آل الشيخ يلتقي ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة    %91 غير مصابين بالقلق    اطلاع قطاع الأعمال على الفرص المتاحة بمنطقة المدينة    «كانسيلو وكيسيه» ينافسان على أفضل هدف في النخبة الآسيوية    اكتشاف سناجب «آكلة للحوم»    دور العلوم والتكنولوجيا في الحد من الضرر    البحرين يعبر العراق بثنائية ويتأهل لنصف نهائي خليجي 26    التشويش وطائر المشتبهان في تحطم طائرة أذربيجانية    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس أذربيجان في ضحايا حادث تحطم الطائرة    حرس حدود عسير ينقذ طفلاً مصرياً من الغرق أثناء ممارسة السباحة    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    ملك البحرين يستقبل الأمير تركي بن محمد بن فهد    مفوض الإفتاء بجازان: "التعليم مسؤولية توجيه الأفكار نحو العقيدة الصحيحة وحماية المجتمع من الفكر الدخيل"    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    نائب أمير منطقة مكة يرأس اجتماع اللجنة التنفيذية للجنة الحج المركزية    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحيوانات.. «الهدية القاتلة» للبشر!
هكذا بدأت الحضارة يا «يالي» (2 - 3)
نشر في الرياض يوم 02 - 11 - 2005

يؤكد دايموند في الفصل الحادي عشر من كتابه الذي جاء بعنوان (الماشية: الهدية القاتلة) أن الأمراض المعدية الأساسية القاتلة للبشرية في العصر الحديث كانت قد جاءت من الحيوانات فمرض الجدري جاء من جدري البقر والأنفلونزا جاءت من الخنازير والبط والسل جاء من المواشي وخاصة البقر والملاريا جاءت من الطيور والطاعون والحصبة من المواشي والإيدز من القرود والكوليرا والسعال الديكي جاءا من الخنازير والكلاب. ويرى أن المزارعين كانوا هم الأكثر تعرضا للجراثيم من خلال مواشيهم بالإضافة إلى الاحتفاظ بالحيوانات الأليفة في منازلهم وسموم فضلات الحيوانات في أماكن الإقامة المزدحمة أيضا ساهمت في زيادة تعرض البشر للعدوى ولكن هذا أيضا ساهم في اكتساب مناعة جزئية أو مقاومة للعدوى فيما بعد لدى الشعوب التي كانت أول من تعرض للأمراض الوبائية القاتلة في المجتمعات المنتجة للطعام .
ويكتب أن بعض الأمراض الوبائية قد تشارك فيها الإنسان والحيوان مثل الحمى الصفراء ودودة الانسيلوستوما والطاعون.
كما أن تعاقب تكون الأمراض الوبائية التي اقتصرت على الإنسان جاء أولا على شكل أمراض معدية تصاب بها الحيوانات التي تعدي بها الإنسان بشكل عرضي ومتفرق وقد تطورت إلى أوبئة بشرية مرتحلة .
الأمراض البكترية
يستعرض الكاتب كيف أن البكتريا ككائن عضوي وجدت قبل وجود الإنسان على سطح الأرض وكيف أن الأمراض البكترية غالبا تطورت مع كل صنف حيوي والعديد من الأمراض البكترية التي نراها اليوم كانت حولنا منذ ملايين السنين في حين أن أنواعا أخرى تطورت فيما بعد ولكن الإنسان ظل لآلاف السنين غير مدرك لأنها السبب في الأمراض المعدية التي ظهرت واختفت عبر العصور وبعضها ظل مصاحبا للإنسان وأخرى اختفت لتعاود الظهور بأشكال مختلفة .
كما يستعرض دايموند أيضا كيف أن استئناس الحيوانات تسبب عبر العصور في انتشار الأمراض الوبائية المعدية في أوروبا وشمال أفريقيا وآسيا في حين أن شعوب الأمريكتين واستراليا ونيوزلندا وجزر الباسفيك التي كانت اقل تطورا في استئناس الحيوانات كانت بشكل واضح بعيدة عن الإصابة بتلك الأمراض إلى أن جاء بها الغزاة الأوروبيون .
وأكد المؤلف أن: «الأمراض الوبائية ظهرت عبر القرون ولم تعترف بالحدود أو الحواجز واتبعت طرق التجارة وكانت قادرة على القضاء على نسبة كبيرة من السكان وكانت النتائج عادة مسببة للدمار والعلاج كان محدودا بسبب نقص المعرفة وعدم انتشارها وربما كان الطاعون من أكثر الأمراض البكترية فتكا بالبشر التي عرفت عبر التاريخ وهو المرض الذي سمي أيضا الموت الأسود .
وعلى الرغم من أن التاريخ يذكر عادة وباء الطاعون الذي اجتاح أوروبا في القرن الرابع عشر باعتباره اكبر انتشار للوباء إلا أن المؤلف يستعرض في كتابه أن هذا الوباء ذكر للمرة الأولى تقريبا في نصوص المؤرخ الأثيني ثوسيديديس الذي عاش ما بين 460 - 400 قبل الميلاد وكان ناقداً سياسياً ومؤرخا وجنرالا وصف الطاعون الذي اجتاح أثينا وإسبارطة في القرن الخامس قبل الميلاد وهو ما يؤيده اكتشافات علماء الآثار فيما بعد .
ويصف الكاتب أن تاريخ الوباء يتميز بكارثتين في العصور القديمة هما طاعون الاثينين عام 430 قبل الميلاد تقريبا وطاعون جوستينيان عام 542 قبل الميلاد .والطاعون الأول استمر من عام 430 - 426 قبل الميلاد وقد وقع خلال ما يعرف بحرب بلوبونسيا التي كانت ما بين أثينا واسبرطة ما بين 431 و404 ، حيث يسرد الكاتب أنه بسبب اكتظاظ الناس وقت الحرب فإن الطاعون انتشر بسرعة هائلة وقتل عشرات الآلاف من السكان وكان من بينهم بيركليس زعيم أثينا وكان هذا ما جاء في نصوص ثوسيديديس.
ويتميز تأريخ ثوسيديديس بأنه الوحيد الذي لم يربط ما بين انتشار الوباء وغضب الآلهة وبما انه كان قد عانى من المرض فإنه يقدم وصفا منظما لأعراضه ويرجع منشأه إلى إثيوبيا وانه من هناك انتشر عبر مصر القديمة إلى اليونان ويذكر المؤرخ أيضا كيف أن الوباء عندما اجتاح أثينا أدى إلى فقدان كبير وهائل للأرواح، كما انه يصف أعراضه بدقة من الشعور بالصداع المؤلم إلى التهاب باطن الجفن وانتشار بثور على الجسم وارتفاع درجة الحرارة ثم إصابة الضحايا بالسعال والنزف وتقلصات حادة ومؤلمة في المعدة كانت تحرم الضحايا النوم وكانت الآلام تدفعهم إلى ضرب رؤوسهم في الجدران وكيف أن المرضى كانوا يموتون خلال ثمانية أيام. أما من نجوا من الموت فيصابون بالشلل وفقدان الذاكرة أو بالعمى لبقية حياتهم ولكن المؤلف يذكر أيضا أن هؤلاء الذين أصيبوا بالمرض ونجوا منه لحسن الحظ أصبحوا محصنين ضده وهذا ما جعل الأوروبيين فيما بعد ينقلون الوباء لغيرهم دون أن يصابوا به أثناء غزواتهم حيث ان الإصابة بالمرض مرة أخرى لا تصبح قاتلة .
و على الرغم من أن عدة أوبئة كارثية حلت ما بعد وباء طاعون أثينا وطاعون جوستينيان إلا انه لا توجد مصادر تؤرخ انتشار هذه الأوبئة إلا مصادر تكاد تكون أدبية ترى أن الآلهة أنزلت العقاب بالبشر في شكل أمراض قاتلة .منها ما عرف باسم طاعون انطونيو الذي حدث في عهد الإمبراطور ماركوس اوريليوس ما بين 161 - 180 قبل الميلاد وقيل انه جاء مع الجنود العائدين من سلوقيا وانه قبل أن يأتي أصاب آسيا الصغرى ومصر واليونان وايطاليا وقتل نحو ثلث سكان هذه البلدان وأباد الجيش الروماني وانه في عام 180 أصيب ماركوس اوريليوس نفسه بالمرض وتوفي وهو يقود جيشه .
و الوباء التالي حدث ما بين عصر الإمبراطور دقيوس 249-251 قبل الميلاد والإمبراطور جالوس 251 -253 قبل الميلاد وقد انتشر هذا الوباء في مصر عام 251 ومنها انتشر إلى الإمبراطورية اليونانية وقضى على جيش الإمبراطورية وتسبب في نقص حاد في الأيدي العاملة ويرى المؤلف أن هذا في حد ذاته كان احد أسباب غزو البلدان الاخرى لجلب المزيد من العبيد والموارد.
بعد القرن الثالث قبل الميلاد لم يذكر انتشار الطاعون حتى جاء طاعون جوستينيان في منتصف القرن السادس قبل الميلاد. وقد بدأ حوالي عام 541 إما في اثيوبيا ومنها انتقل إلى مصر أو في سهول روسيا في آسيا الوسطى حيث رحل عبر قوافل التجارة ومن هذين الموقعين انتشر الوباء بسرعة عبر العالم الروماني وما وراءه. وقد انتشر تحديدا عبر قوافل التجارة متسببا في تبادل مثير للعدوى مع البضائع ولهذا فإنه انتشر بشكل حاد ووحشي في المدن الساحلية. ومن خلال حركات القوات العسكرية خلال حملات الإمبراطور جوستينيان الأول الإمبراطور البيزنطي التي وفرت مصدرا آخر لانتشار الوباء وهذان العاملان القوافل التجارية والحركات العسكرية نشرت الوباء من آسيا الصغرى إلى أفريقيا وايطاليا وأيضا إلى أوروبا الغربية. وكان أول انتشار معروف لوباء الطاعون في أوروبا وانه أيضا أصاب الإمبراطورية الفارسية والقبائل البدوية البربرية في أفريقيا في حين أن القبائل العربية لم تتأثر بالوباء حسب المصادر التاريخية المتاحة كما أن الضحايا لم يكونوا فقط من البشر بل أيضا من الحيوانات خاصة الماشية.
وقد ترك الوباء بصمة طويلة على الحياة المدنية وخاصة الفقراء الذين عانوا من نتائج مدمرة ثم انتشر الوباء لدى الأحياء الغنية ومع قلة العمالة وإنتاج الطعام ماتت الغالبية الباقية من الجوع.وأصبح الكثير من المنازل قبورا تحوي جثث أصحابها حيث توفيت أسر بأكملها داخل المنازل دون أن يعرف من بالخارج أنها تحولت لمقابر جماعية، وفي عام 544 وضع الإمبراطور جوستينيان الأول بعض الشرائع التي عرفت باسم الشرائع الرومانية ودونها ومنها تلك التي تخص قوانين التجارة للتعويض عن قلة الطعام خاصة في العاصمة ولكن دون جدوى.
أيضا عانى الإمبراطور البيزنطي من عدم وجود رجال يخدمون في جيشه ولحسن حظ اليونان فإن الوباء أصاب أيضا الإمبراطورية الفارسية مما قلل من معدلات هيمنتها على اليونان وأدى إلى إضعافها لفترة طويلة.
ثم بعد غياب للوباء نحو أكثر من ألفية عاود الظهور مرة أخرى من خلال البكتريا التي تبعت طرق التجارة ونتج عنها انتشار مروع للوباء قتل تقريبا نحو ثلث إلى ثلثي سكان أوروبا الغربية. وقد استمر الوباء في الانتشار بشكل شبه متواصل على مدار قرنين وتسبب في آثار مزلزلة على نسيج الحياة الاجتماعية والاقتصادية للعالم.
كان أول أوبئة اجتاحت أوروبا الغربية ترجع إلى عام 1348 ميلادية وقد جاءت من آسيا عبر الطريق الشمالي للتجارة عبر سهول روسيا وطريق التجارة الجنوبي نحو البحر الأبيض المتوسط. وقد انتشر وباء آخر تال في ستينيات القرن الرابع عشر وقضي تقريبا على أجيال كاملة في هذا العصر حتى اختفى بلا تفسير وقتها بعد القرن السابع عشر.
والكائن الجرثومي المسبب لهذا المرض هو كائنات بكترية ذات خلية واحدة تصيب القوارض والحشرات الطفيلية التي تتغذى على جسدها وتلك الحشرات مثل البراغيث مستعدة لنقل ما حملته من جراثيم إلى الإنسان بعد أن تسبب وفاة الحيوان القارض الذي كانت تتغذى عليه. وتلك الكائنات البكترية يمكن أن تعيش خارج الجسم لفترة بعد أن تودع به المرض المعدي. وكان يعتقد أن ناقل الجراثيم هو نوع من البراغيث التي تتغذي على الفئران التي تعرف بالفئران السوداء وكانت منتشرة في أوروبا وتنقل العدوى بسهولة وتسبب الوفاة للحيوان القارض ثم ان الحشرات (البراغيث) كانت تنتقل من الفأر الميت للإنسان للتغذي عليه وتنقل معها البكتريا المسببة للمرض وهي نوع من البكتريا التي تنتشر بشكل سريع جدا وتقتل أولا الخلايا في المنطقة التي تلدغ بها منتجة بثرة مائية متورمة ثم ان نظام الغدد اللمفاوية ينقل البكتريا إلى الغدد اللمفاوية نفسها في محاولة لإنتاج أجسام مضادة مقاومة للبكتريا بسرعة غير أن الغدد اللمفاوية للأسف تعجز عن القيام بهذا وبدلا من ذلك تتورم بشكل هائل وتنتشر البكتريا عبر الجسم مسببة حمى وصداعا مؤلما وهذيانا ارتعاشيا ويحدث هذا خلال من 4 إلى 10 أيام حيث يموت نحو 60٪ من الذين أصيبوا بالعدوى. وعلى الرغم من أن سبب نقل العدوى هو البراغيث إلا انه يمكن أن تنتقل البكتريا من خلال الجو المحيط عبر السعال وهذا الشكل من انتقال العدوى يكون بشكل عام قاتلا. ويقدر أن أول انتشار لهذا الوباء قتل 20 ٪ من تعداد سكان أوراسيا وفي بعض المناطق أو الأقاليم وصلت معدلات الموت إلى أكثر من 50 ٪.
ويستعرض الكاتب بصفة خاصة وباء الطاعون الذي اجتاح انجلترا عام 1348 والذي درسه بعمق بسبب آثاره على النسيج السياسي والاقتصادي وإن كان من غير المعروف حتى الآن الطريقة التي انتشر بها المرض إلى انجلترا.
وفي الواقع فإن السجلات الإنجليزية التي تؤرخ الأحداث لا تذكر مرض الطاعون ولكنها تذكر فقط انه في عام 1348 ظهر وباء قتل سكان مدينة لندن سببه الفأر الأسود ومنذ ذلك الوقت تكرر ظهور وباء الطاعون عدة مرات وأصاب تقريبا كل جيل منذ ذلك العصر دون أن يعرف احد أسبابه سوى انه مرض فتاك وقاتل يعاود الظهور حتى انه أصبح أمرا شائعا ولم يعد يتسبب في ثورة اجتماعية كما حدث عند أول ظهور له.
وآخر موجات الانتشار كانت في اسكتلندا ما بين 1645 و1649 وقضت تقريبا على 20٪ من السكان وأنه ما بين 1580 و1650 قتل 15٪ من سكان مدينة لندن وحدها.
ثم كان آخر انتشار للوباء في لندن عام 1665 قبيل كارثة الحريق الكبير وكان له تأثير كبير على اقتصاد انجلترا حتى إنه يروي أن التجار أجبروا على الانتقال من لندن لجني الضرائب من مدن أخرى بها سكان.
الحشرات والأسلحة
يشير الكاتب أيضا إلى الطريقة التي استخدم بها الأوروبيون ما يمكن أن يعرف بالأسلحة البيولوجية حيث يذكر أنه في عام 600 قبل الميلاد على سبيل المثال قام صولون السياسي والمشرع الاثيني بتسميم نهر بليثينس بجذور نبات سام ليتسبب للمدافعين عن حصن كيراه في حالات إسهال حادة أدت إلى هزيمتهم، كما يسرد أيضا أن في عام 190 قبل الميلاد انتصر القائد القرطاجي هانيبال نصرا كبيرا على ملك بيرجامون الملك ايومنيس تعمد الانسحاب من مخيمه العسكري وترك وراءه كمية كبيرة من النبيذ الذي أضاف له جذورا مسمومة لها تأثير مخدر وأن العدو عندما شرب النبيذ المسمم راح في نوم عميق وعادت جيوش هانيبال فقتلت جيش العدو ويذكر التاريخ العديد من الأحداث عبر العصور عن جيوش ألقت بجثث الموتى والحيوانات في الآبار والبرك والأنهار لتسميم إمدادات مياه الأعداء.
كما يذكر الكاتب انه في القرن الرابع عشر الميلادي قام أباطرة التتار المنغولين بحصار لمدينة فيدوسيا على البحر الميت دون أن يتمكنوا من كسر تحصين سكان المدينة وأخيرا انهوا الحصار الطويل الذي استمر ثلاث سنوات بأن قذفوا بالمقلاع جثث موتى وباء الطاعون على جدارن المدينة ووقتها انهارت مقاومة المدينة بسبب انتشار وباء الطاعون عام 1346 ويعتقد أن السكان الهاربين من المدينة نشروا الوباء في ايطاليا مما بدأ ما عرف بوباء الطاعون الأسود الذي قضى على الأوروبيين ما بين 1348 و1350 ميلادية.
في عام 1763 يذكر دايموند ما يعرفه بأول استخدام للأسلحة البيولوجية في العالم الجديد حيث يعتقد أن الأوروبيين تعمدوا استخدام وباء الجدري بقوة ضد الهنود السكان الأصليين للقارة الأمريكية خلال الحرب الفرنسية الهندية وأن سير جيفري امهرست قائد القوات البريطانية في المستعمرات الأمريكية الذي حمل معه بطانيتين ومحرمة من مستشفى بريطاني كان يعالج مرضى الجدري توفوا منه تعمد إرسالها لزعماء القبائل الهندية للقضاء عليهم بالمرض القاتل وبعدها انتشر وباء الجدري الذي لم يعرفه السكان الأصليون للأمريكتين من قبل.
ويذكر المؤلف انه في الحرب الأهلية الأمريكية كان أول استخدام لحشرة كسلاح بيولوجي بشكل غير شرعي حيث اتهمت الكونفدرالية الاتحاد بأنه تعمد إنتاج ما يعرف بحشرة المهرج وهي حشرة جرثومية في الجنوب وأن الحشرة تسببت في القضاء على المحاصيل الزراعية في الجنوب بسبب انتشار تلك الحشرة ومن النبات انتشر المرض المسبب لنوع من الهذيان المميت إلى السكان .
كما يكتب دايموند عن الأمراض المرتبطة بالميكروبات والحشرات الناقلة للأمراض التي استخدمت بكثافة في بداية القرن العشرين فبمجرد أن عرفت آلية نقل الأمراض عن طرق الحشرات الجرثومية استخدم المخططون العسكريون هذه الوسيلة كسلاح للقضاء على العدو، ففي الحرب العالمية الأولى استخدمت تلك الوسيلة كأسلحة بيولوجية في عمليات تخريبية حيث قام عملاء ألمان عام 1915 بتلقيح جياد وماشية كانت مرسلة من الولايات المتحدة إلى موانىء الحلفاء بمرض الجمرة الخبيثة الانثراكس. وفي عام 1917 قام الألمان مرة أخرى بالتسبب في انتشار واسع للمرض لدى أكثر من 4,500 حمار على الجبهة الفرنسية ونشروا الطاعون على الجبهة الروسية عام 1915 و1916.
في 17 يونيو 1925 قضي برتوكول جنيف بمنع استخدام الغازات الخانقة والسامة في الحروب والأساليب البيولوجية حتى على الرغم من أن الأسلحة البيولوجية لم تستخدم على نطاق واسع خلال الحرب العالمية الأولى إلا أن مشرعي بروتوكول جينيف اعتبروا أن الأسلحة البيولوجية خطر قاتل يتصاعد تهديده وأن العناصر البكترية إذا استخدمت بشكل غير مناسب يمكن أن تقضي على البشرية ووقتها أذعنت معظم الدول لما ورد في الاتفاقية. إلا أن الولايات المتحدة لم تقر بما جاء فيها بسبب النزعة الميالة لعزلة نفسها عن بقية أنحاء العالم التي كانت طاغية وقتها على الفكر السياسي والشعبي غير أن الولايات المتحدة أقرت فيما بعد بها في عام 1975 أي بعد 50 عاما من إقرارها. وكان فشل الولايات المتحدة في الاعتراف بها قد دفع اليابانيين لعدم الإذعان لها أيضا حيث اعتبروا أن الأسلحة البيولوجية أسلحة واعدة في الحروب القادمة .
ولكن في الحرب العالمية الثانية شهد العالم تطورا كبيرا في استخدام الأسلحة البيولوجية، ويعتقد المؤلف أن استخدام ألمانيا للأسلحة البيولوجية لم يكن متطورا بالقدر الذي وصلت له اليابان أو الدول المتحالفة حيث تشير الوثائق الحالية إلى أن الأبحاث التي أجريت على تلك الأسلحة لم تؤخذ بشكل جدي من قبل قادة الجيش الألماني وأن هتلر بصفة خاصة شعر أن العلوم الحديثة في هذا المجال لم تكن سوى أحد أشكال التآمر اليهودي ومنها الأبحاث التي قام بها اينشتاين الذي كان يطلق عليه الفيزيائي اليهودي،كما انه شعر بنفس الأمر تجاه العلوم البيولوجية الحديثة وحتى علم النفس الحديث. وبعد الهجمات الروسية المضادة الناجحة في روسيا عام 1943 وافق هتلر على إنشاء محطة أبحاث للأسلحة البيولوجية في مدينة بوزين ومع اقتراب الروس من محطة الأبحاث أمر بالإسراع بعجلة البحث ولكن العلماء الألمان في الواقع لم يحرزوا تقدما كبيرا قبل أن يحتل الروس المحطة في مارس عام 1945.
في محطة أبحاث بوزين أجرى الألمان أبحاثا على أساليب نشر أمراض الطاعون والكوليرا والتيفود والحمى الصفراء وأجروا تجارب على إمكانية استخدام الجراثيم الناقلة لهذه الأمراض من خلال حشرات مثل حشرة خنفساء البطاطا في هجوم على محاصيل البطاطا في دول الحلفاء. واتهم الألمان بأنهم اسقطوا جوا صناديق كرتونية مليئة بحشرة خنفساء البطاطا على إنجلترا ما بين 1941 -1943 ولا يوجد تأكيد على ما إذا كانت هذه الصناديق قد أسقطت جوا أم لا ولكن وقع ارتفاع شديد في انتشار الحشرة مما دفع سير ماريوس هانكي رئيس وحدة الأبحاث على الأسلحة البيولوجية البريطانية لكتابة مذكرة إلى ونستون تشرشل عبر فيها عن شكوكه .
ومع ارتفاع مخاوف بريطانيا من أن تتعرض لغزو ألماني بعد الجلاء الناجح من منطقة دو نكريك انتشرت الشائعات بأن الألمان قد ابتكروا صنفا من الحشرات الآكلة للحوم البشر من الجنادب التي سوف تجبر بريطانيا في النهاية على الاستسلام ولكن هذه لم تكن سوى أسطورة ولكن حقيقة أن العلماء الألمان استخدموا البشر في تجارب على سرعة نقل الحشرات للأمراض الفتاكة لم تكن أسطورة فمعسكرات الاعتقال النازية تعمدت نشر حشرات القمل الحاملة لمرض التيفود والعديد من هؤلاء العلماء حكم عليهم بالإعدام فيما بعد خلال محاكمات نورمبرج .
قامت بريطانيا بإجراء برنامج أبحاث قوي منذ عام 1934 وبعد أن علمت بأن الألمان قد بدأوا برنامجهم عام 1936 قامت لجنة استشارية متخصصة بإنشاء أمصال مضادة للأمراض البشرية والحيوانية وخزنت مبيدات حشرية وفطرية لاحتمال تعرضها لهجوم لمحاصيلها الزراعية.
وفي عام 1939 قامت تلك اللجنة الاستشارية بتقدير أن الأسلحة البيولوجية اقل فاعلية من الأشكال التقليدية من الأسلحة ولكنها نصحت الحكومة ببدء إجراء أبحاثها الخاصة.
وفي عام 1940 وبعد سقوط فرنسا قامت وحدة أبحاث الأسلحة البيولوجية بإنشاء وحدة أبحاث في جزيرة بورتون داون وشنت تجاربها عام 1941 التي تضمنت إمكانية نشر خلايا مرض الجمرة الخبيثة من خلال قذائف تلقى جوا وما زالت جميع تفاصيل هذا البرنامج سرية ولم يفرج بعد عن الوثائق الخاصة بها ولكن السبب وراء معرفة تلك الحقيقة أن تلك الجزيرة التي أجريت بها التجارب معروفة للعامة لأنها ما زالت غير مسكونة من الحرب العالمية الثانية بسبب وجود جراثيم الجمرة الخبيثة .
وكانت الأبحاث الخاصة بالأسلحة البيولوجية تعتبر شديدة الخطورة داخل اليابان ولهذا فقد اختيرت الحكومة الصورية في منشوريا التابعة لليابان منذ عام 1932 كأفضل موقع لإجراء تجاربها، وفي عام 1936 أرسلت اليابان مجموعة من الجنود والمعدات العسكرية في قرية هاربن وكان الاسم الرسمي لتلك الفرقة وحدة الوقاية من الأوبئة وحماية إمدادات المياه ولكن في الواقع كانت مهمة الوحدة التي حملت اسما سريا هو 731 أن تطور أبحاثها حول جراثيم قاتلة قد تستخدم ضد جميع الأعداء المحتملين. وكما فعلت ألمانيا فإن اليابان استخدمت البشر كفئران تجارب وفي عام 1932 أخذ المساجين من معسكرات الاعتقال خاصة من الجنود الصينيين والعلماء والعمال وكانوا نحو 10 آلاف شخص لم يبق منهم احد تعرضوا للموت بجرثومة الجمرة الخبيثة والطاعون. وقد نتج عن هذه التجارب الوحشية أن تمكن اليابانيون من تطوير أسلحة بيولوجية يمكنها أن تنشر الطاعون على بعد 300 كيلو متر وأيضا التيفود والكوليرا والدوسنتاريا والجمرة الخبيثة.
وكان الجنرال الياباني شيرو أشي يرى بشكل راسخ أن الطاعون هو أفضل سلاح بيولوجي يمكن استخدامه في الحروب وأن الحشرات الناقلة للجراثيم يجب أن تنقل للعدو من خلال قذائف خاصة التصميم ألقيت على الصين من 1939 - 1945.
ومع نهاية الحرب العالمية الثانية كانت الوحدة 731 تعد لشن حرب بيولوجية واسعة على روسيا إلا أن البرنامج الواسع الانتشار كان قد توقف عقب احتلال روسيا لإقليم منشوريا في أغسطس عام 1945 وقرر بقايا الجيش الياباني قتل فئران التجارب من البشر عند وصول القوات الروسية وأضرمت النار في جثثهم. وعقب احتلال الولايات المتحدة لليابان بدأ الروس يقدمون احتجاجات بأن الحكومة الأمريكية تحمي العلماء اليابانيين الذين شاركوا في تلك التجارب وأنهم رفضوا تقديمهم للعدالة، وفي نفس الوقت أرسلت إدارة الرئيس الأمريكي هاري ترومان فريقا من علماء البكتريا للتحقيق في برنامج اليابان للأسلحة البيولوجية خلال الحرب .
ويؤكد المؤلف أن الجنرال ماك آرثر الذي كان مسئولا عن احتلال اليابان بعد الحرب وفريقا من العلماء تعمدوا عدم إرسال معلومات إلى واشنطن حول ما وجدوه وأنه تمكن من الحصول على حصانة للعلماء اليابانيين مقابل الحصول على خبراتهم في الأسلحة البيولوجية وكان ذلك في تحرك سريع منه خوفا من أن يحصل الاتحاد السوفييتي على أي معلومات عن تلك الأسلحة وهو ما حدث تقريبا حيث لم يتمكن الاتحاد السوفييتي من الحصول على الكثير من المعلومات في حين وفرت الولايات المتحدة للعلماء اليابانيين الذين اسروا في منشوريا حياة هادئة في اليابان وبعضهم أصبح من ابرز العلماء على المستوى الدولي. ومنهم أشي الذي ظل مستشارا للسلطات الأمريكية خاصة خلال فترة الحرب الباردة إلى أن توفي عام 1959 من سرطان الرئة.
ويكتب دايموند: «منذ عام 1975 ولا يعرف الكثير عن التطورات التي حدثت في مجال أبحاث الأسلحة البيولوجية حول العالم خاصة بعد أن وقعت الدول الكبرى اتفاقية جنيف التي تحرم استخدام الأسلحة البيولوجية ولكن الأبحاث ما زالت تستخدم وبقوة في دول العالم المتقدم.
(بترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.