يتبادر إلى الذهن لدى قراءة عنوان «جنّة ونار» للروائي الفلسطيني يحيى يخلف أننا إزاء رواية دينية/ميتافيزيقية لما تحيل إليه المفردتان في المعجمين اللغوي والديني، غير أننا إذا ما علمنا أن العنوان هو اسم ثوب فلسطيني أسود عُرفت بصنعه بلدة مجدل عسقلان، وأخذته عنها بلدة بيت دجن في قضاء يافا وطبّقته على ألوان فاتحة، ندرك أن الرواية تتناول الموضوعة الفلسطينية في بعض أبرز تجليّاتها. في «جنّة ونار» (دار الشروق)، يتناول يحيى يخلف قوة الانتماء التي تثيرها الهوية الفلسطينية في أصحابها، فتدفعهم إلى البحث عنها والعودة إلى الجذور، ومكابدة التضحيات لتحقيق هذا الهدف. ويتناول ما يتفرّع عن هذه الموضوعة من: معاناة الشتات، الغربة، الفقر، الصمود، التضامن، والمقاومة على أنواعها. يدخلها الكاتب في نسيج روائي محكم، يمتدّ زمنيّاً على مدى ثلاثة عقود، ويتحرّك مكانيّاً من فلسطين إلى لبنان، فسورية، فالأردن، ففلسطين. وتتمظهر هذه الحركة في الزمن والمكان من خلال مجموعة من الشخصيات / الضحايا التي تتواشج مساراتها، وتتقاطع، وتفترق. يتوازى فيها الفردي مع الوطني، فتغدو سيرة الفرد جزءاً من تاريخ الوطن، ويصبح البحث عن الأمّ بحثاً عن الأمّة، والبحث في الهويّة بحثاً في الوطن. وتبرز من خلال حركة الشخصيات على أنواعها القيم التي طبعت الفلسطيني في هذه المرحلة التاريخية، ومنها: الإرادة، التضحية، التضامن، الصمود، والمقاومة... ثمة خيطان سرديّان ينتظمان السرد في «جنّة ونار»؛ خيط «سماء» الممتدّ على مدى الوحدات السردية السبع والثلاثين التي تشكّل الرواية، وخيط «الانكليزي» الذي يطلّ برأسه في الوحدة الرابعة عشرة. ومنذ هذه الوحدة، يدخل الخيطان في علاقات تواشج، وتوازٍ، وتقاطع، وافتراق، حتى ينقطعا في نهاية الرواية. - في العام 1969، تكتشف سماء، الفتاة الجامعيّة الفلسطينيّة المقيمة مع أسرتها في كورنيش المزرعة، بعد وفاة ربّ الأسرة، أبي حامد سائق الأجرة المتحدّر من قرية سمخ الفلسطينيّة، أن الأسرة التي عاشت معها ليست أسرتها الحقيقيّة بل هي أسرة تبنّتها وربّتها، إثر العثور عليها طفلةً رضيعةً بين الأشواك، في العام 1948، عند باب التمّ قرب بحيرة طبريّة. هذا الاكتشاف الصادم يشكّل رأس خيط سردي منذ الوحدة السرديّة الأولى في الرواية، فتقرّر سماء البحث عن أسرتها الحقيقية منطلقةً من دليل أوّلي، هو كيس صغير عُثر عليه معها يحتوي على شال وأدوات أخرى، وعلى الكيس والشال رسوم ومطرّزات. تغادر بيروت مغضبة من سميحة أمّها بالتبنّي إلى مخيّم اليرموك قرب دمشق، تحلّ ضيفة على الخالة بدرية، صديقة الأسرة الخبيرة في الخياطة والتطريز، فتحتضنها كأم، وتباشران معاً رحلة البحث عن الأمّ المفقودة، عبر الأردن، وصولاً إلى فلسطين. خلال البحث، تستعين سماء المثابرة، المشاكسة، العنيدة، المندفعة، بوسائل كثيرة، وتحظى بمساعدة آخرين وأخريات، ما يوصلها إلى أمّها الحقيقيّة ووطنها، فالعودة إلى حضن الأمّ تتزامن مع العودة إلى حضن الأمّة، في معادلة روائيّة جميلة يُقيمها الكاتب بين العودتين. «كلّما عرفت شيئاً عن تلك الحضارة أشعر بأنني اقتربت من العثور على أمّي»، تقول سماء. الأمّ... الأمّة تستعين سماء بالأنتروبّولوجيا في تحليل الرسوم والمطرّزات الموجودة على الكيس والشال (بدرية ودالية)، وبالتقصّي الميداني (هدى صفدي)، وبالمعرفة التاريخيّة والتراثيّة (دالية عبدالرحيم)، وبالشعوذة والتبصير (أم المكارم)، وبالعمر والفراسة (الشيخ حسن)، وبالخبرة العمليّة والعمل المباشر (العم نجيب)، وبمساعدة الداخل الفلسطيني (الصديق الشركسي). في قراءة هذه الأحداث روائيّاً، يمكن القول إن البحث عن الجذور والعودة إلى الأمّ / الأمّة لا يتحقّقان بالتبصير والشعوذة والغيبيات بدليل أن البصّارة أم المكارم فشلت في تقديم أيّة معلومة مفيدة في البحث، وقدّمت معلومة خاطئة مضلّلة. بل يتحقّقان بمعرفة التاريخ والتراث والحضارة، وبالعمل المباشر. وهما حصيلة تضافر الجهود بين الأجيال والخبرات والثقافة، مشفوعة بالإيمان بالحق، والإرادة، والاستعداد لبذل التضحيات اللازمة. وهكذا، فإن إيمان سماء بقضيّتها، ومثابرتها على السؤال والبحث والتحليل، واستعدادها للتضحية، وشجاعتها في مواجهة المحتل، ودخولها السجن والمحاكمة، أدّت إلى تحقيق هدفها. في المقابل، فإن حسن «الانكليزي»، ابن التركملي الذي أخذته جمعيّة إنسانيّة صغيراً للدراسة في معهد بستالوزي في لندن، يعود شابّاً بقلب فلسطيني وعقل أوروبي لتحقيق هدفين اثنين: إعداد بحث في «الهويّة والتحرّر الوطني»، والبحث عن أسرته التي انقطعت أخبارها عنه. وهنا، يتقاطع مع سماء في البحث عن أسرتها الحقيقية. غير أن حسن الذي يقترب من النجاح في تحقيق الهدف الأول، من خلال: الإقامة مع الفدائيّين في معسكراتهم، الإقامة في المخيّم، المشاركة في الأعمال الزراعيّة، التعرّف إلى أنماط العيش والتفكير، يفشل في العبور إلى فلسطين مستفيداً من جنسيّته الانكليزيّة، في إشارة روائيّة واضحة إلى أن العودة إلى فلسطين لا تكون عبر المحتل. وحين يعود إليها تسلّلاً مع سماء والعم نجيب وزوجته بدرية يفشل في العثور على أسرته، فيؤثر العودة مع نجيب وبدرية من حيث أتوا، ولعل الفشل الأخير يُعزى إلى قِصَرِ نفَسه، وعدم استعداده للتضحية، والمسارعة إلى العودة قبل انكشاف أمره. هل فعل ذلك بسبب عقله الأوروبي وتربيته الانكليزية وافتقاده جذوة الإحساس بالانتماء؟ هذان الخيطان السرديّان، نقرأ فيهما قوّة المرأة الفلسطينيّة، وإصرارها على حقّها، واستعدادها للتضحية من دونه. يتمظهر ذلك في شخصيّات ثلاث، على الأقل، هي: سماء التي آمنت بحقّها، وثابرت على تحقيقه، وغامرت، وتحدّت، وضحّت. بدرية التي احتضنت سماء كأم، وواكبتها في بحثها، وأقنعت زوجها الكهل الخبير في الجغرافيا الفلسطينيّة بقيادة المجموعة العائدة، وشاركت فيها بنفسها. ودالية عبدالرحيم، أستاذة التاريخ والتراث الملمّة بالتفاصيل، الأمينة على الذاكرة والحضارة. حقول متعددة في «جنّة ونار»، يقدّم يحيى يخلف مادّة معرفيّة متنوّعة، مفتوحة على ثلاثة حقول معرفيّة، على الأقل، هي: الأنتروبّولوجيا مجسّدة بتعبيراتها الماديّة من أزياء وأطعمة، وتعبيراتها الفكريّة من أمثال وتعابير وأغنيات شعبيّة. الجغرافيا مجسّدة بعدد كبير من أسماء ومواقع البلدات والقرى الفلسطينيّة. التاريخ مشاراً إليه بعدد من الوقائع التاريخيّة المعروفة. وهكذا، تحقّق الرواية هدفي الأدب المعروفين: المتعة بتقنيّاتها السردية، والفائدة بمادّتها المعرفيّة. لكن تحقيق الهدف الأول يحصل من خلال سبعة وثلاثين فصلاً / وحدة سرديّة متوسّطة. تتألّف كلٌّ منها من وحدات صغرى، تفصل بين الوحدة والأخرى ثلاثة نجوم. يقوم الراوي العليم بفعل الروي في ثلاثة وثلاثين فصلاً بصيغة الغائب، ويقوم حسن «الانكليزي» بروي أربعة فصول بالصيغة نفسها، فيرى إلى الأحداث من منظوره الخاص. وإذا كان الروائي يتوارى بشكل مباشر خلف الراوي العليم، فهو يتوارى بشكل غير مباشر خلف الراوي / الشخصية، مع العلم أن لا فرق بين ما يأتيه الراويان في اللغة والأسلوب، فتغدو تقنيّة الراوي / الشخصية لزوم ما لا يلزم، ولا تُصرف روائيّاً. في لغة السرد، يستخدم يحيى يخلف لغة أنيقة، رشيقة، تؤثر الجمل القصيرة والمتوسّطة، تستعمل التشابيه الطريفة، والاستعارات الشعرية أحياناً، تترفّع عن المباشرة المبتذلة، ولا تسقط في التقعّر اللغوي والإغراء البلاغي والإنشائيات، تجنح نحو التصوير أحياناً، تقول وتوحي، فتشكّل وعاءً مناسباً للأحداث، وأداة مناسبة للخطاب، وغاية جمالية على ندرة، وتمنح النصّ قيمة مضافة. وعليه، تتضافر الحكاية والخطاب واللغة لتقدّم رواية جديرة بالقراءة.