بدا الروائي والكاتب عبدالله بخيت سعيداً بما حققته روايته الأولى «شارع العطايف» من مبيعات أولاً، إذ بيع منها ألفا نسخة في يوم واحد. ثم الانتباه النقدي الذي حظيت به، فقد كتب عنها داود الشريان ومحمد علي فرحات وعباس بيضون ومودي بيطار وزياد الدريس وبدرية البشر وآخرون. وفي حوار ل «الحياة» يقول ابن بخيت إن مسؤولية الكاتب في السعودية اكبر من مسؤولية الكاتب في فرنسا أو في روسيا، مشيراً إلى أن «شارع العطايف» ولدت الآن لأنها لم تصبح جاهزة للخروج للحياة إلا الآن. لافتاً إلى أنه لو كتب هذه الرواية في الثمانينات أو التسعينات لواجه مشكلات لا حصر لها، ولن تخرج بهذه الصورة أبداً. ويرى أن الكاتب الجاد لا يعمل في اطار تنافسي، ولكنه جزء من مشروع كبير يقوم على التنامي المستمر، وأن قيمة الكاتب تتقرر من التفرد الذي يضيفه للمشروع والأفق الذي يفتحه بعيداً عن سياق الآخرين. هنا نص الحوار: كيف تلقيت حضور روايتك اللافت في معرض الكتاب الأخير؟ - كنت كما يجب أن أكون. كنت سعيداً. بلغت مبيعاتها ألفي نسخة في 24 ساعة ولو أحضر الناشر أضعافها لنفدت أيضاً. كان يوماً تاريخياً بالنسبة لي. تعبر «شارع العطايف» عن كتابة فنية روائية ناضجة من الضربة الأولى – أول رواية لك – وتظهر فيها احترافية سردية عالية. فما سر ذلك؟ ولم هذا الغياب وأنت تملك هذه القدرة؟ - عندما نقول ان فلان جاء في غير زمانه فهذا كلام غير صحيح أو ان فلاناً تأخر عن زمانه فهذا غير صحيح. لا يولد الشيء إلا في زمانه ومكانه الصحيحين وكل ما عدا ذلك هو كلام مجازي. شارع العطايف ولدت الآن لأنها لم تصبح جاهزة للخروج للحياة إلا الآن. لو كتبت هذه الرواية في الثمانينات أو التسعينات لكنت واجهت مشكلات لا حصر لها، ولن تخرج بهذه الصورة أبداً. لا يمكن أن اكتب هذه الرواية في أي وقت آخر. فالروح العملية عند الإنسان تنشط في زمانها ووفقاً للشروط الموضوعية السائدة. شخصياتك بائسة، أتت ضمن نص نافذ وعميق، شخصيات لا تبرح ذاكرة قارئها. وصفها أحدهم برواية «البؤساء» العربية. هل تتفق مع ذلك؟ - لا أجد أي سبب يجعلني أتفق أو أختلف مع هذا الرأي. كل قراءة لأي كتاب هي إعادة تأليف للكتاب. كلنا نحمل جزءاً كبيراً من البؤس، ولكن لأننا نعيش خارج رواية وبعيداً عن نظر الآخرين فلا يظهر هذا البؤس. لو أن أي أحد تمت متابعته من راوٍ خفي يطل على حياته الشخصية وعوالمه غير المنكشفة للآخرين وأوهامه لظهرت أمامك كل أشكال البؤس. عندما يختفي الضغط الإنساني عن أي رواية فاعرف أن الكاتب لم يكتب رواية وإنما سجل فكرة رواية. قرر في جلسة أن يكتب عن كذا أو كذا. عن قريتهم أو عن قصة حدثت في كذا. الرواية لا تكتب بهذه الطريقة ولا تبدأ بهذه الطريقة. الرواية ليست ذكريات وليست تعبيراً عن موقف وليست نصيحة ممطوطة على مئات الصفحات. الدوافع التي تدفعك لتأليف قطعة موسيقية هي الدوافع نفسها التي تدفعك لتأليف رواية. اشتغلت الرواية على ثيمة (الجنس) محرماً وشاذاً وتأثيره النفسي بشكل رئيسي بالحرية كخلفية لبعض الشخصيات المهمشة. وجاء هذا الاشتغال ضمن أبعاد إنسانية ونفسية. ما دلالة تحميل هاتين الثيمتين ما لا تحتملان لتؤدي لنتائج ونهايات كارثية كالموت إعداماً ومرضاً؟ وما علاقة الجنس والتهميش بالجريمة والانحراف؟ - إذا كانت الرواية اشتغلت على ثيمة الجنس فالحياة تقوم على ثيمة الجنس. وجودي ووجودك ووجود كل الكائنات الحية بدأ بالجنس. وكل المشتقات الأخلاقية المرتبطة بالجنس ليست من الجنس. فرضت على الجنس من الخارج. وقبل أن أتعرض لما سميته نهايات كارثية أحب أن أذكرك أن معظم الدعاة حثوا الناس على الجهاد بوعود جنسية (بنات الحور) والرجل الذي يدعو إلى الزواج من أربع هو في الواقع يتحرك بثيمة الجنس والذي يترك زوجته وأطفاله ويسافر إلى بعض المدن (لا داعي أن اسمي) يحركه الجنس. لماذا نترك كل هؤلاء ونلاحق كاتب الرواية بسؤال الجنس؟ وإذا عدنا إلى شارع العطايف سترى أن الجنس ليس المحرك الأساسي ولكنه المشترك بين الشخصيات والمشترك في الحياة خارج الرواية. حياة شنغافة تختلف عن حياة فحيج وحياة الاثنين تختلف عن حياة سعندي. انني أتأسف جداً أن أجد من انشغل بحياة شغنافة الجنسية وترك مأساته الإنسانية الكامنة في الوحدة والغربة والبحث الدوؤب عن حياة أفضل. الرجل كان يتصارع مع وجوده، إنني أأسف على من يبحث في حياة سعندي الجنسية، ويترك صراعه مع القبح الذي طاوله وطاول أخته وشقيقه، حياة فحيج لا تقوم على الجنس، ولكنها تقوم على الغدر، اسمح لي بأن أقول ان الهوس الجنسي لا يحرك الرواية، ولكنه يلوث نظرتنا للأمور، أصبحنا نقرأ الرواية ونحن نعد المشاهد الجنسية. كلما اكتشفنا مشهداً جنسياً، ابتهجنا وسمحنا لأنفسنا بترديد الاسطوانة نفسها «الرواية السعودية تقوم على الجنس». اعتمدت تقنية الرواية في فصولها الثلاثة على ما يسمى بالوحدات الروائية، وسردت حيوات ثلاث شخصيات رئيسية عن طريق راو عليم، وبطريقة الفلاش باك وتداخل الزمن ضمن نطاق مكاني واحد، وبتقاطعات بسيطة بين الشخصيات الثلاث. ما سر اللجوء لهذه التقنية؟ ولم لم تخلط كل الشخصيات ضمن خيط سردي واحد مع تكثيف بعض الحكايات الجانبية، لتحد من تفلت خيط السرد العام؟ - النص الذي تقرأه هو المحاولة الثالثة، كتبت الرواية بطرق عدة، المحاولة الأولى سمحت فيها بتداخل الشخصيات في سرد واحد كما هي حال الرواية التقليدية، ولكن هذا أدى إلى طغيان شخصية على بقية الشخصيات الأخرى. ثم اعتمدت على تكنيك القص التلفزيوني. متابعة كل خطوط القص بشكل سريع ومتلاحق كما في السينما، ولكنني قدرت أن هذا الشكل يصلح لقراء متمرسين في قراءة الرواية، وأخيراً استقر رأيي على الشكل الذي قرأت به الرواية، فهو بسيط ويناسب كثيراً من القراء، ومع ذلك لم يسلم من التربص وسوء الفهم. أبرز ما نلحظ في الرواية إضافة لجانبها الإنساني والنفسي، لغتها السردية العالية ذات الجمل القصيرة المتلاحقة، التي يتداخل فيه الراوي العليم بمهارة، مستبطناً شخصيات الرواية، ومتغلغلاً في نفسياتها بعبارات وصفية مذهلة، ومشاهد معبّرة لغوياً عن إنسانيتها، ما يحيل إلى أنك أخذت وقتاً طويلاً جداً في كتابتها، لتحافظ على لياقة لغوية لم تضعف حتى في نهايتها، ما تعليقك؟ - من قراءتي لكثير من كلاسيكيات الرواية العالمية (مئة عام من العزلة والصخب والعنف والزمن المفقود وزوجة الملازم... الخ)، استقر الرأي عندي أن الرواية تقوم على الجمل الطويلة، ولكن نجاح همنجواي في معظم رواياته، علمني أن الرواية يمكن أن تنجح باستخدام الجمل القصيرة إذا تدرب الكاتب على ذلك، ومن حسن حظي أنني كتبت «شارع العطايف» بعد تجربة الكتابة الصحافية الطويلة. ولكن علي أن أقر بأن الجملة القصيرة تسبب كثيراً من المشكلات أثناء القص وتعرقل الصورة، لذا اضطررت الى العودة إلى الجمل الطويلة، وفي الأخير اكتشفت أنني استخدم الجمل الطويلة في بناء البعد الشعري في النص، أما الجمل القصيرة فكانت وظيفتها تحريك الحدث من موضع إلى الموضع الذي يليه، ولأن الحدث هو أكثر الأشياء التي تعلق في ذهن الإنسان، وسمت الرواية بالجمل القصيرة، وفي الحقيقة لم يكن تركيزي على الجمل القصيرة، ولكن على فصل الجمل عن بعضها البعض، سترى أن كل جملة قوة مستقلة عن الأخرى، ستلاحظ أنني أتجنب بقدر ما استطيع استخدام حروف العطف، اكتشفت أن الجملة تصبح قوية كلما كانت مستقلة عن التي قبلها والتي بعدها. تحفل بعض مشاهد الرواية باللامنطقية مع سياق الواقع، ومن أمثلة ذلك جرائم القتل التي لا تثبت على أحد وكذلك بشاعتها، وضحك سعندي على خاله وسرقته، وتبدّلت حال والده بائع الأغنام في زيارة مفاجئة للشيوخ لطلب الشفاعة والمساعدة، وقبول شاب عمره 16 سنة أن ينتهك جسدياً، ونحن نعرف أن جيل ذلك الزمن يعد من يتجاوز ال13 رجلاً يعرف كيف يعيش ويدافع عن نفسه، وكذلك عدم تبرير اختفاء معدية، واستسلام شنغافة للإعدام، على رغم براءته أو جرمه البسيط، وأحداث أخرى. ما تعليقك؟ - كل هذه الأسئلة أو التساؤلات مقبولة ومنطقية، لو أنني قدمت تقريراً عما جرى في زمن من الأزمنة، هذا سؤال لا يختص بالرواية، لعلك ترمي إلى أن هناك خللاً أصاب واقعية الرواية، في حال معدية مثلاً لم أكن أقص قصتها ولم ألاحقها، ما أعرفه عنها لن يزيد عما يعرفه عنها حبيبها شنغافة، هل تتوقع أن أكون أكثر معرفة من شنغافة، لو أنني أظهرت معرفة بمعدية أكثر مما يعرفه شنغافة لاختلت واقعية النص التي ألهمتك هذا السؤال، الكاميرا التي أحملها تلاحق شنغافة وليس معدية، ما ان تخرج معدية من الكادر، وجب علي أن أنساها، لماذا لم تسألني عن مصير الشيخ سالم أيضاً؟ لماذا لم تسألني عن السويمي وما الذي حل به؟ الذين يطالبون بحلول لعقد القتل ومصائر الشخصيات الأخرى، يطالبونني برواية لا نهاية لها. قضيتهم ليست الرواية، قضيتهم أخلاقية أو تاريخية أو اجتماعية، هذه أشياء لم آخذها في حسابي عندما قررت أن أكتب رواية، الذي تشغله مثل هذه الأمور في الرواية، أنصحه بان يقرأ روايات كلاسيكية على الأقل ثلاث روايات في الشهر مدة سنة كاملة، على أن يتوقف عن قراءة الروايات، التي اشتراها من السوبر ماركت طوال مدة العلاج. لماذا غاب البوليس عن الجرائم في النص؟ - الجرائم التي شاعت في الرواية ليست بالضرورة جرائم، انها آلام وأحقاد قد تكون حدثت وقد لا تكون. تلاحظ أن الموت الحقيقي كان معداً لفطيس صاحب الجريمة الكبرى والشبحين اللذين دفنا الطفل في المقبرة، ولكن فحيج لم يتمكن من أي منهم. في هذه الرواية ليس مهماً أن يحدث القتل وتسجل جريمة ويأتي البوليس. الجرائم تكنيك (روائي) تكشف مدى الألم الذي أنزله الغدر بفحيج. خذ مثلاً كيف كان فحيج يدير مسألة قتل فطيس وما أعد له وكيف تخلى عن كل قيمة ليأخذ من الشيطان أساليبه في تنفيذ الموت. كل هذا لم يحدث. كان يدور في خيال مأزوم ومتألم. اسمح لي أن أقول ان من تخيل تلك الجرائم كحقيقة تنتظر البوليس قليل الخبرة في الاستمتاع بقراءة الروايات. هذه الإجابة كافية لتفسير ما أردت معرفته ولكن دعني أقول ان الواقعية في الرواية لا تشتبك مع الواقع ولا تأخذ منه منطقيته. اقرأ رواية العطر لزوسكند التي أشارت لها بدرية البشر في معرض حديثها عن شارع العطايف. لماذا لم يهتم المؤلف بالجانب القانوني والأخلاقي من القضية. أقول لك أنا، لأن قضية الكاتب ليست في الجرائم. الجرائم التي حدثت مجرد تكنيك. القارئ الذي يعرف كيف يستمتع بالرواية تشغله أمور الرواية وليس أمور الدنيا. أسئلة الرواية تصنع من داخل الرواية. من القيم السائدة في النص. الذين أفزعتهم الجرائم التي لم يكتشفها البوليس أنصحهم أيضاً بقراءة ثلاث روايات كلاسيكية شهرياً لمدة سنة مع التوقف عن قراءة روايات أجاثا كرستي طوال فترة العلاج. في الرواية سرد عن أحوال الناس البسطاء، كتبت ببساطة وهذا الأسلوب في الكتابة يمارسه الكتاب في الأدب اليساري، هل سعى عبدالله بن بخيت إلى هذا الأمر في شارع العطايف؟ - كلما بدا العمل بسيطاً كلما كان الجهد المبذول فيه أكبر، كتبت الرواية وأنا أعرف وأتمنى أن يكون 90 في المئة من قرائها من داخل المملكة. لم أسع للبساطة سعيت للوضوح. عندما أنهيت المجلد الأخير من رواية الدون الهادي لميخائيل شولوخوف ندت مني تنهيدة وقلت متى أكتب رواية بهذا الحجم وبهذه البساطة، شعرت بالإحباط. أتذكر التقيت الروائية الإنكليزية مردوخ قالت أكتب الجملة أكثر من مرة. بالفعل الكتابة الحقيقية تكمن في المراجعة أثناء إعادة صياغة الجمل وتتولد الأفكار الحقيقية بعد الكتابة الثانية أو الثالثة للنص ستلتقي بحقيقة الخلق. بهذا الصدد أتذكر أن الكاتب هامجوي قال انه كتب الفصل الأخير من إحدى رواياته 27 مرة. كانت دروساً مفيدة لي.