في الوقت الذي كانت هوليوود بدأت تكفكف دموعها على ممثلها الكبير الراحل فيليب سيمور هوفمان الذي قضى وهو في أوج عطائه الفني بعد أن مثّل في بعض أقوى الأفلام الأميركية المعاصرة، وأخرج ما لا يقل عن تحفة سينمائية صغيرة، وجدت عاصمة السينما العالمية نفسها من جديد غارقة هذا الأسبوع في دموع أتت أكثر قسوة ومرارة على نجم كبير آخر من الذين أعادوا الاعتبار إلى فن التمثيل في العقدين الأخيرين، روبن ويليامز. ثم في اللحظة التي كانت تلك الدموع قد بدأت تنهمر على ويليامز مأخوذة بفكرة أن موته إنما كان انتحاراً نتيجة لكآبة استبدت به منذ سنوات هو الذي قامت شهرته على كون أدواره - في معظمها على الأقل - أسعدت الملايين منذ عبوره الظريف في مسلسل «الأيام السعيدة»، فوجئت هوليوود بالرحيل - المتوقع هذه المرة على الأقل - لواحدة من آخر نجوم العصر الذهبي الهوليوودي: لورين باكال التي كانت تستعد حين وفاتها للاحتفال، بعد شهر واحد من الآن، بالعيد التسعين لمولدها. ولئن كانت قلة فقط من مخضرمي الجمهور السينمائي قد صُدمت برحيل باكال، حيث إنها لفرط ما ارتبطت بتاريخ السينما كان يخيّل إلى كثر أنها رحلت منذ زمن بعيد، من المؤكد أن رحيل هوفمان ومن بعده روبنز شكّل صدمة مزدوجة لكل هواة السينما الأميركية المعاصرة من الذين ينظرون إلى هذه السينما فيما وراء بهرج أفلامها الضخمة المصنوعة للمراهقين وأشباههم من ملتهمي «البوب كورن» في عتمة صالات لم تعد مصانع أحلام. فالحقيقة أن الراحليْن - في شكل طوعي على الأرجح، الأول بجرعة مخدرات زائدة والثاني انتحاراً كما ترجّح الشرطة الكاليفورنية حتى الآن - كانا معاً، كلٌّ على طريقته من الذين أعادوا الاعتبار إلى فن الممثل في سينما هوليوود. أبطال مضادّين طبعاً، لا يمكننا الزعم أن هذين كانا الوحيدين في هذه الإعادة، فهوليوود الحديثة، ومنذ سنوات السبعين على الأقل، تزدحم بالمؤدين الكبار، تماماً كما تزدحم بمخرجين كبار هم أيضا يحققون أفلاماً تعرف جيداً كيف تستفيد من فنهم، وكذلك بكتاب سيناريو مبدعين حقيقيين يستفيدون من تحوّل جزء ما من السينما الأميركية إلى إبداع حقيقي يشارك بصفته فناً، وينجح في مهرجانات عالمية، ويتمرد على القوانين الهوليوودية المألوفة، كما يتمرد أحياناً على قواعد «النظيف سياسياً» البيت - أبيضية، فيقدم أعمالاً تساهم في خلق وعي اجتماعي بل حتى سياسي يتناقض مع قيم الحلم الأميركي ومتطلبات مؤسسة السلطة. وإذا كنا سنستنكف هنا عن الخوض في هذا المضمار لضيق المساحة المتاحة، سنقول ببساطة إن مواصفات الفنان الحقيقي الهوليوودي في هذا المعنى تكاد تنطبق على هوفمان وروبنز، من دون أن تنطبق على أي منهما مواصفات النجم بالمعنى التقليدي الهوليوودي للكلمة - راجع في مكان آخر من هذه الصفحة عرضاً لبعض أفكار الفيلسوف الفرنسي إدغار موران حول «نجوم السينما» بالمعنى الهوليوودي الحصري للكلمة - بل إننا هنا بالتحديد أمام ما يمكن تسميته بالنجم - المضاد، وحسبنا أن نراجع قائمة أفلام هوفمان، لا سيما حين مثّل تحت إدارة رفيق رحلته الفنية بول توماس أندرسون في أفلام مثل «ماغنوليا» و «بوغي نايتز»، لا سيما أخيراً في «ذا ماستر» وكذلك في الفيلم الذي حققه بينيت ميلر عن الكاتب ترومان كابوتي وكتابته نصه الشهير «بدم بارد»، حتى ندرك هذا. فبالنسبة إلى البطل - المضاد، ليس الشكل ما يهم وليس «الإيفيهات» الأدائية. ما يهم، على طريقة استديو الممثل بالأحرى، إنما هو تلبّس الشخصية تماماً وتنفسها عميقاً على الشاشة. وهذا ما لا يمكن نكران أن هوفمان بالتحديد كان واحداً من كبار البارعين فيه. روبن ويليامز كان أيضاً من كبار البارعين في هذا السياق، لكنه كان على النقيض تماماً من زميله الراحل الآخر: فمقابل بطء هوفمان في حركته وتعبيره الجوّاني، اشتهر روبنز بسرعته وارتجاله وتركيزه على الحوار بمقدار ما يركز على الحركة. وكذلك، في مقابل اشتغال هوفمان على سجلّ أدائي يكاد يكون واحداً من فيلم إلى آخر - إلى درجة بات معها أشبه بعلامة مسجّلة - كان التنويع سيّد الموقف لدى روبنز. ونكاد نقول: مقابل ثقافوية هوفمان واشتغاله ذهنياً على أدواره، كان روبنز يلجأ إلى نوع من العفوية الطاغية... مع العلم أن العاملين مع الاثنين يشدّدون على قاسم مشترك بينهما هو النزوع إلى الارتجال في الحركة وفي الحوار. سعادة من قلب الكآبة كان كلّ منهما «يخرج عن النصّ» واعتاد المخرجون العاملون معهما تركهما في أكثر الأحيان على سجيتهما. ويقيناً أن هذا يتناقض تماماً مع ما هو معهود في عالم النجومية الهوليوودية المطلقة حيث تُحسب كلّ خطوة بدقة، وفي ارتباط مع توقعات المعجبين وشباك التذاكر وما إلى ذلك. ولعلنا نود بهذا أن نشير هنا إلى ما يؤكده إدغار موران - وأشرنا إليه بوضوح في تقديمنا لترجمتنا العربية لكتابه - من أن زمن النجوم قد انتهى في هوليوود، حتى وإن كان لا يزال هناك عدد من «أشباه النجوم»، بل حتى هؤلاء لا يتوانون عن المغامرة ب «نظافتهم السياسية» في سبيل قضايا لم يكن عالم النجوم السابق يحفل بها. وهذا الأمر بالتحديد هو ما سيقودنا بعد لحظات إلى الحديث عن لورين باكال التي تبكيها هوليوود أيضاً هذه الأيام. أما قبل ذلك فلا بد من وقفة أخيرة عند روبين ويليامز لنشير إلى أنه حرص طوال مساره المهني على أن يعمل في أفلام «أفخر بها» كما كان يقول. وحسبنا أن نذكر هنا أفلامه الرئيسية لنوافقه على هذا القول. ففنان الكاباريه الهزلي الذي كانه روبنز عند بداياته، لفت الأنظار منذ «الكاستنغ» الذي أجراه ليلعب دور مخلوق فضائي (موك) في مسلسل «الأيام السعيدة»، حيث دفعته دفعة قوية إلى الأمام يومها، العبارةُ التي قالها منتج المسلسل غاري مارشال تعليقاً على أدائه التجريبي: «إنه المخلوق الفضائي الحقيقي الوحيد الذي شاهدته في حياتي». ومنذ تلك اللحظة لم يعد في إمكان أي شيء أن يوقفه. بخاصة أن روبرت آلتمان الذي كان أحد كبار المشاكسين الهوليووديين في ذلك الحين، اختاره للعب دور «بوباي» في الفيلم الرائع والمتمرد المقتبس عن الشرائط المصورة الشهيرة. وبعد ذلك إذ لعب روبنز بصوته دور الجني في الفيلم الكارتوني «علاء الدين» كشف ذلك الصوت عن طاقات مذهلة أثبتت حضورها أيضاً في فيلم «صباح الخير يا فييتنام» الذي لعب فيه دور مذيع في راديو القوات المسلحة الأميركية إبان حرب فييتنام، لا يتوقف عن المشاكسة على القياد وتسخيفها إلى درجة اتهم معها بالخيانة وممالأة الثوار الفييتناميين. وبعد ذلك كان لا بد لانطلاقته من أن تكون كالسهم فارضة إياه من خلال دور المتشرد الفيلسوف (في «فيشر كينغ») أو دور الأستاذ المتمرد والمؤثر عميقاً في طلابه (في «حلقة الشعراء الميتين») أو المجرم (في «إنسومنيا») أو الأستاذ المحلل النفسي الذي نال عليه أوسكار أفضل ممثل مساعد (في «غود ويل هانتنغ») وصولاً إلى دوره الرائع في «السيدة دابتفاير»، حيث نراه يتنكر في زي امرأة تعمل خادمة، كي يتمكن من مشاهدة أطفاله الذين أعطت المحكمة مطلقته حق حضانتهم... في كل هذه الأدوار كان روبنز ممثلاً كبيراً، لكنه كان من أكبر النجوم - المضادين في راهن السينما الأميركية. نجمة في مهب السياسة في المقابل كانت لورين باكال نجمة بالمعنى العريض والحاد للكلمة. نجمة تجمع قوة الأداء بالجمال المطلق باختيار دقيق للأدوار... غير أن ما منعها دائماً من أن تحتسب في خانة النجمات الكبيرات ذوات المصائر المدهشة - وفق تحليل موران - كان أمران ربما يمكننا اعتبارهما ظرفيين، أولهما أن حياتها كزوجة طوال ال12 سنة الرئيسية من حياتها الخاصة والمهنية، للممثل همفري بوغارت، كانت حياة عائلية عادية بعيدة من صخب الإعلام والفضائح والعلاقات الجانبية، وثانيهما أنها عند بداية سنوات الخمسين يوم اشتدت حملة اليمين الفاشي الأميركي الماكارثي ضد اليساريين الهوليووديين، كانت إلى جانب زوجها بوغارت، من النجوم النادرين الذين ساندوا «العشرة المدانين» عرائض وتظاهرات ونضالاً يومياً. ولربما يمكن القول إن هذا كلفها الكثير، لكنها هي لم تندم أبداً على ذلك حتى وإن كان قد حلا لها بين الحين والآخر أن تقول إنها إنما فعلته كرمى لعيني «بوغي» - بوغارت. وتقول لنا سيرة لورين باكال إنها بدأت حياتها وكان اسمها الأصلي بيتي جوان بيرسكي (من مواليد نيويورك عام 1924) عارضة أزياء وفتاة غلاف. وكانت في العشرين حين اكتشفت زوجة المخرج هاوارد هاوكس صورتها على غلاف مجلة «هاربر بازار» فلفتت نظر زوجها إليها وكان يبحث عن صاحبة وجه جديد تقف أمام بوغارت نفسه في فيلم «مرفأ القلق» المقتبس عن رواية لإرنست همنغواي، فاستدعاها وأسند إليها الدور. والطريف أن النظرة التي لاحظها الجميع في الفيلم مرسومة على وجهها وصنعت لها شهرتها، بل لقب «النظرة» الذي اشتهرت به، عزتها لورين دائماً إلى الخجل حيث تقول: «كنت منذ تصوير اللقطة الأولى في غاية الخجل، لا سيما أمام بوغارت فأنزلت رأسي حتى وصلت ذقني إلى صدري وأنا أكلمه بينما نظرت إليه من أسفل رافعة عيني حياءً فكانت تلك النظرة الجديرة بلقطة». والحال أن تلك النظرة تصدر عن عينين قويتين أشبه بالحالمتين كانت هي سرّ افتتان الجمهور بلورين وكذلك سر افتتان بوغي بها فتزوجا وأنجبا ولدين. غير أن سعادتهما لم تدم سوى 12 عاماً، إذ مرض الزوج واستكان إلى الفراش فيما ابتعدت هي عن الشاشة ما يفسّر كون عدد الأفلام التي لعبت فيها قليلاً وغيابها عن الإعلام، لا سيما بعدما تزوجت، بعد سنوات من موت بوغارت بالممثل جازون روباردز جونيور الذي يرى فيه كثر شبهاً ببوغارت. أما هي فقد بقيت ذكرى هذا الأخير تشكل جزءاً أساسياً من حياتها. ثم ومن دون أن تعلن اعتزالاً يشبه، مثلاً اعتزال غريتا غاربو، تحولت إلى ما يشبه الشبح السينمائي وصوراً على الجدران - غالبا بتايور منقط بالأسود والأبيض كان أحب ثيابها إليها - بنظرتها المدهشة، هي التي بالكاد ظهرت في دزينة من أفلام كان آخرها فيلم «دوغفيل» من إخراج الدنماركي لارس فون ترير، لكنها مرّت فيه، تماماً كما في حياتها السينمائية، مرور الكرام.