قد يكون لحدث عفوي مفاجئ الفضل في شحن الواقع الفكري والثقافي، كما قد يؤدي هذا الشحن إلى مواكبة حراك الشارع، وسبر أغوار الظواهر والنوازل المجتمعية المستجدة من خلال إنشاء مراكز فكرية متخصصة. هذه الظواهر غالباً ما تجعل المجتمع أمام حال مكشوفة تستدعي نقداً ذاتياً للواقع والفكر، سعياً لتجاوز الأزمة بأخف ضرر وأسرع وقت. باحثون سعوديون أرجعوا حال الحراك الفكري، والظهور الصاعد لمراكز الأبحاث والدراسات (الأهلية)، إلى أحداث ال11 من أيلول (سبتمبر)، التي ألزمت المجتمع بإعادة النظر والمراجعة في واقع الحال، نتيجة الوقع الشديد للضغوط الخارجية، والضخ المكثف لكثير من المفاهيم والأفكار التي تسببت في إحداث حال احتدام فكري بين التيارات كافة، ما جعل المجتمع مشدوهاً أمام حلبة الصراع المحتدم. ويعود سبب تأخر ظهور مراكز البحث الفكري في السعودية - كما يرى عدد من الباحثين - إلى انشغال قيادات ونخب المجتمع في عملية البناء والتأسيس، إضافة إلى حال الانغلاق المعرفي التي أحاطت بالمجتمع في الفترات السابقة، لانتشار وسائل الإعلام و الاتصال. يمكن إرجاع إشكالات المراكز البحثية من خلال آراء الباحثين إلى خمسة أمور: التمويل، التسييس، والشح الكمي والنوعي، والتشتت في الجهود البحثية، وحال القطيعة والتنافر في علاقة المراكز بصناع القرار. من جانبه، شبّه مدير مركز ساس الوطني لاستطلاع الرأي العام والبحوث الدكتور محمد بن صنيتان المراكز الفكرية ب«الأيتام على قصعة اللئام»، فهي لا تحظى بالرعاية الحكومية وتعاني من إهمال المؤسسات المدنية، إضافة إلى غياب مشاريع الوقفيات البحثية على عكس مما هو موجود في الدول المتقدمة والمستقرة». وأكد ابن صنيتان أن أبرز التحديات التي تواجه مراكز البحث الفكري في السعودية تتمثل في «الدعم المالي والمعنوي، إضافة إلى فقر الثقافة البحثية»، مشبهاً رؤيته لمستوى التعاون بين المراكز نحو طريقة «التعاون القبلي والمذهبي والمناطقي». وأوضح أن قدرات باحثي المراكز الفكرية في التصدي للظواهر الفكرية متوافرة، ولكنها متوقفة على «وجود الدعم الرسمي والشعبي، ولا تنتظر من المراكز شيئاً في ظل غياب الدعم ومحاربة المجتمع للفكر المستقل»، ولخص رؤيته حول الدور الذي تلعبه التوجهات الفكرية بقول الشاعر: (وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت / وإن ترشد غزية أرشد)، قاصداً بذلك «غلبة التعصب للتيار والفكرة على حساب الحقيقة، وينطبق ذلك على الأصولي والليبرالي والشيعي والسني». ولفت إلى الدور الذي لعبته بعض المراكز الفكرية الساعية لإذكاء نار الفرقة والخلاف في المجتمع، تمثل ذلك في تشتيت الجهود البحثية، وتغليب المصلحة الضيقة على مصالح الأمة والمجتمع، «وجعلت من المجتمع شذر مذر كادت أن تحاصره فكرياً، إضافة إلى انصراف المجتمع عن القضايا المهمة والفكرية». وأشار ابن صنيتان إلى أن الجهات الحكومية والمؤسسات المدنية لا تستعين بالمراكز الفكرية الخاصة حال رغبتها في إنجاز دراسات، خصوصاً في ما يهم المجتمع في مواضيع الإرهاب والجريمة والأمن الفكري، مفيداً أن عطاءات المراكز تأتي من اجتهادات شخصية. من جانبه، أكد رئيس مركز الفكر العالمي الدكتور محمد البشر أن تأخر ظهور مراكز البحث الفكري، كان بسبب انشغال قيادات ونخب المجتمع في الفترة السابقة في تأسيس البنية التحتية للوطن، إضافة إلى تلازم ذلك مع حال الانغلاق الثقافي والمعرفي في المرحلة السابقة لفترة الانفتاح المعلوماتي، التي أسهمت في التلاحق المعرفي بين المجتمع المحلي والعالم الخارجي. ووصف البشر مستوى التعاون بين المؤسسات البحثية والفكرية ب«ضعيف جداً»، مرجعاً ذلك إلى النشأة الباكرة لهذه المراكز، التي أشغلتها بوضع البرامج وتنفيذها من جهة، واختلاف التوجهات والأهداف من جهة أخرى، مؤكداً «ضرورة العمل التعاوني والتكاملي بين المراكز الفكرية ذات الأهداف المشتركة، إضافة إلى حاجة الالتقاء المشترك بين المراكز الفكرية جميعاً، كون المقصد والمستفيد بالدرجة الأولى هو الوطن والمواطن». وأضاف: «أن أبرز التحديات التي تواجه ازدهار العمل الفكري المؤسسي هو في الدعم المالي»، مبدياً استياءه بأن «الدعم الحكومي للقطاع الفكري الخاص ضعيف ومحبط، ورجال الأعمال منصرفون عن الاستثمار في الفكر، وبضاعة الفكر هي البضاعة الوحيدة التي لا تجد لها داعماً وتشجيعاً في مجتمعنا، على رغم تأثيرها الكبير، والحاجة الماسة إليها». واستدرك أن هناك عدداً قليلاً من مراكز الفكر والدراسات اضطلع بمهمة إجراء البحوث العلمية والدراسات الاستطلاعية لقياس الرأي العام، مع القيام بعملية نشر نتائج تلك الدراسات على مواقع الإنترنت، مشيراً إلى أن ردود الفعل تجاه هذه المشاريع الفكرية، دون مستوى الوعي الذي يبلغه المواطن السعودي. وفي الإطار نفسه، أكد الباحث يوسف الديني أن المراكز البحثية والفكرية لا تزال نادرة، وأن كثيراً من المراكز التي تعلن عن نفسها كمنصات بحثية، هي في الحقيقة إما أن تكون دور نشر متخصصة أخطأت عمل فهم المراكز البحثية، أو أنها مظلة لنشاطات فكرية موجهة، أنشأت لتعميم رؤية مؤدلجة على حساب البحث العلمي وسلامة الأدوات والمنهج، إضافة إلى عدم وجود رؤية مسبقة تحكم طبيعة اختيار الأبحاث أو نتائجها.وأشار الديني أن المراكز البحثية الموصوفة ب«الانفتاح الفكري» هي أيضاً ممن يمارس بالأساس عمل دور النشر المتخصصة في مجالات بحثية محددة، تراوح بين «الإسلاميات وإصدار الملفات السياسية»، لكنها لا تمارس عمل البحث العلمي المتخصص من القيام بعملية الاستطلاع، وقياس الآراء عبر الأدوات المنهجية، موضحاً أن الملفات البحثية التي يستكتب لها متخصصون، هي في نهاية المطاف «آراء تحليلية وليست أبحاثاً مبنية على استطلاعات الرأي أو حتى قياس حجم وأداء التيارات الفاعلة في المجتمع». وأضاف بالقول دون حرج: «إن كثيراً من مراكز الأبحاث ذات المرجع الأحادي ما هي إلا منابر لاستقطاب الأنصار، ومحاولة دفع الشبه عنهم وليس أكثر، يظهر ذلك من منتجات تلك المراكز التي تعنى بما يسمى آليات (كشف الشبهات)، وإلجام الخصوم كجزء من مهمة الدفاع عن الهوية التي تضطلع بها العديد من المراكز، وهذا حق مشروع لها لكنه لا يمت للبحث العلمي بصلة». وبيّن أن مراكز البحث الفكري تعاني من إشكالات عدة، تبدأ من الوقوع تحت شرك التسييس ب«تقديم رؤى سياسية مرسلة بحسب طبيعة القائمين على المركز أكثر من كونها تقرأ الأحداث من زاوية سياسية وبأدوات منهجية»، مبيناً أن الرؤية الفردية وانعكاس نتائج الأبحاث والدراسات بناءً على ما هي عليه رؤية ملاك المراكز وتوجههم السياسي جزء من المشكلة القائمة»، مضيفاً: «أن الساحة تفتقد إلى عنصر التنوع والتعدد في التخصصات، وما غياب مواضيع البيئة والطاقة والقضايا الاقتصادية والسياسات المحلية إلا دليل على ذلك». ولفت إلى الأثر الكبير الذي خلفه غياب مفهوم «المأسسة البحثية»، الذي يستهدف الأوقاف في سبيل خدمة البحث العلمي من دون التدخل في سياسات المعهد، لضمان نتائج ورؤى غير مؤدلجة.