لا شك في أن قراءةَ أنساقِ الواقع المجتمعي في أي بلدٍ أو أمة لا بد أن تستندَ إلى تأسيسٍ معرفي وعلمي يمتلكُ من الأدوات ما يحققُ بغيةَ القراءة، لكن هذا لا يعني عدم توافر فرصةٍ جديةٍ للمقاربة الفردية لنسقٍ ما من أنساق المجتمع، لا سيما أن يكون هدفُ المقاربةِ ملامسة مفردات النسق وقياس مدى فاعليتها أو جمودها والنزوع إلى تتبع مراحل تحولاتها وأنماط علاقاتها المختلفة. إن هذه القراءةَ المحايثةَ لا تستهدفُ تضخيمَ سؤالٍ ما، أو إثارةَ التوجس في نفسية من يؤمنُ بالسائد ويقدسهُ؛ كونها تتناولُ قراءةَ النسق الذهني لصفوة المجتمع، ولكنها حريصةٌ على الوقوف ما استطاعت على مظاهر النسق أو نواتجه التي تثيرُ لغطًا كبيرًا في واقع العالم العربي. وتأتي القراءةُ في مرحلةٍ تبرزُ فيها مواقف مزيفة مبعثها متصورات النسق المعرفي للنخبة، وما تؤمن به من قناعاتٍ تسهمُ في تشكيلِ حالةٍ مشوهةٍ تنصدمُ إفرازاتُها على طول الخط بالرؤيةِ الحداثية المخلصةِ لضمير العصر، والهادفةِ إلى تنقيةِ موضوعاته، وتتخطى تلك المواقفُ عتباتها بدعمٍ روحي ومادي من النخبة التي نقصدُ بها رموزَ المجتمعِ من علماء ومفكرين وأدباء وسواهم من رموز فن الثقافة والإبداع، إلا أن المقاربة تقفُ على نموذجٍ واحدٍ يتمثلُ في أساتذةِ الجامعات باعتبارهم صفوةَ الصفوة والأكثر أثرًا في تشكيلِ النسقِ المعرفي للمجتمع سلبًا أو إيجابًا. إن من يتابعُ الخطابَ المعرفي للنخبة بشكلٍ عام في الوطن العربي منذُ مطلعِ الحداثة وما بعدها يجده يراوح مكانه، وإن تعددت آلياته فهي تدور في حلقةٍ مفرغةٍ، وتبدو متوجسةً من التفاعل الإيجابي مع أيِ حركةٍ فكريةٍ أو ثقافيةٍ تنبعثُ مصادرُها من خارج الوعاء الفكري الذي تؤمن به تلك النخبة، بل إن المؤسفَ له حقًا أن هذا الخطابَ المعرفي يتخذُ من أيةِ حركةٍ جديدةٍ موقفًا عدائيًا بدون أي مبرر، أو حتى محاولة القرب منها لفهم ما تختزله أو تفرزه من إيجابيات أو سلبيات، فالحداثة على سبيل المثال وما أتى من بعدها من حركاتٍ فكرية أو تعبيرية لم يتفاعل معها بشكل جدي، وإنما يُنظرُ إليها من زاويةٍ واحدةٍ على أنها شرٌ مستطيرٌ والحديثُ عنها أو الترويجُ لها يوقعُ صاحبه تحت مجهر التشكيك في دينه وسلوكه أو تحت مطرقة الاتهام بالخيانة والماسونية والعلمانية، مع أنها حركاتُ لا تشمل الأفكار والوعي فحسب، بل تشمل أيضًا أنماط الحياة المعيشية والإدارية، أي: أن لها ميزةً مهمةً من حيثُ إنها موضوعٌ عامٌ يستوعبُ كلَّ صيغِ الحياةِ ووظائفها. صحيحٌ أننا قد نجدُ بعض الدراسات الفكرية والنقدية تجاهرُ بقيمٍ حداثية، لكن رؤيةَ المقاربةِ العميقةِ لتلك الدراسات تكشفُ عن موازين لا يمكن أن يتجاوزها النسقُ المعرفي للنخبة، حيث يهادنُ كثيرًا الصوتَ النسقيَّ السائدَ الذي لا يرضى إلا ركوبَ موجةِ التقليدِ كاستراتيجيةٍ حتميةٍ ومقدسة، والنيل منها أو محاولة تحجيمها يرفع درجة حساسية المجتمع، ويمس كينونة السياق الثقافي العام. هكذا يمكنُ القولُ إن النسقَ المعرفي للنخبة اليوم يستندُ إلى إرثٍ متكلسٍ لا يقبل بفاعلية المجتمع وفرص التغيير ودفع الركب إلى الأمام، وخلق حالةٍ من التفاعلِ الجاد، وهذا ما يوحي بضبابية الفكر وخطورته على سيرورة الحياة، فعدمُ الإيمانِ بالتجديد، وحريةِ التفاعل مع ما تطرحهُ اللحظةُ المعاصرةُ من تساؤلاتٍ مهمةٍ تفرضُ ضرورةَ التجاوبِ الواعي والمتناغم من منطلقاتِ الحركات الفكرية المؤسسةِ على مشروعٍ علميٍ حديثٍ يشتغلُ على آليةِ تحريكِ بنيةِ المجتمعِ ومؤسساتهِ الاجتماعية والفكرية والسياسية يعني أن النسقَ المعرفي للنخبة في مأزقٍ حقيقي وخطير، ويتحركُ في مرباعٍ خاصٍ به لا يحملُ همومَ الواقعِ ولا متصوراتِ المستقبل، بل إنه يرفضُ ظهورَ أية فكرةٍ تخالفُ منهجيته ويعتبرها بدعةً محضةً، وهذا ما يتجلى من نوعيةِ الخطابِ المعرفي الشفاهي والكتابي لجمعٍ كبيرٍ من النخبة، حيث يعجبُ المرءُ من نمطيةِ توارثِ نهجٍ متواترٍ يُحفظ بشروطهِ القياسية التي تخضعُ لفكر الرقيب المؤدلج في اتجاهٍ واحد، والذي لا يقبلُ الالتفات إلى ما دونه، وهذا القولُ ليس من باب التهكم، فالكلمةُ الحقُ اليوم في لبسٍ بيَّنٍ ويختفي بريقُها بين التي واللتيا، والفكرُ متشعبٌ في كل وادٍ يهيم، ومسائلُ العلمِ الحديث محجوبة لأن النظر فيها من إبليس، والجمعُ في كليته لا يزال يفكر بعقليةِ شُرَّاحِ المعلقات في القرون الأولى، أما أسلوبُ الخطابِ فلا يزال يقومُ على عنعنةِ السياق، وقُدس سره، ودام ظله، دون الرؤيةِ أو السماح للذهن بالتفكير والتعليق على روايةٍ ما تمجها الفطرة، أو حكاية مخترعة يلفظها العقل، أما اللغةُ فالتمتعُ بمفارقات نهجها غير جائز، والتصرفُ في قوالبها التقليدية يدخلُ في باب الردة. إنه تكريسٌ سلبيٌ لا يخلو من دلالاتٍ رمزيةٍ قوية المعنى تتجلى من انكسارِ التموجِ وموت الفاعلية، وانكفاء التجديد، وهذا ما نبصره عيانًا في الوسط النخبوي، فالتفكيرُ ينحصرُ في دائرةٍ مغلقةٍ مهمتها مواجهةُ شروطِ التحول، وإشعالُ فتيلِ الصراعاتِ السطحيةِ التي لا تخدمُ استقرارَ المجتمعِ وأمنه ووحدةِ بنيتهِ الفكرية والاجتماعية والسياسية، ولعل ما يروجُ اليوم بين العوام من أفكارٍ مأزومةٍ تستندُ إلى الخرافةِ وتُغذي مبادئ التشددِ والانتقامِ والكراهيةِ لمجردِ تعارضِ فكرةٍ أو مخالفةِ رأيٍ قابلٍ للطرح والتناول بروحٍ علميةٍ متسامحةٍ لأكبرُ دليلٍ على استنادِ النسقِ المعرفي إلى دعامةٍ صلبةٍ من الخوف والريبة والتسطيح والارتهان لمواقف دخيلة لا تتواءمُ مع وعي اللحظةِ المعاصرة وثقافتها وانفتاحها. إذن نحنُ أمامَ نسقٍ معرفي متشعبٍ يُعبِّرُ عن نفسهِ بطرقٍ عديدةٍ؛ لكنها تلتقي في ركنٍ ركين لا يقبلُ المساسَ أو المراجعةَ أو النقدَ خشيةَ التعرضِ لأسئلةٍ شائكةٍ تكشفُ مدى زيفِ الخطابِ وتعثرهِ أمامَ استراتيجيةِ المبادرةِ والحراك والتفاعل مع منظومةِ القيمِ والأعراف المولودةِ من رحمِ الحداثةِ ووظائفها التجديدية. هذا النسقُ المعرفيُ السائدُ في المجتمعِ العربي كان يُعوَّلُ على أساتذةِ الجامعاتِ في تهذيبه وتحريكِ بوصلتهِ نحو التجديدِ والإبداع، بحكمِ تعرضِ نسقهم الذهني لاتجاهاتٍ عديدةٍ تتجاوز مبدأ التوارث، أو ضبط العلاقات في أمكنةٍ منغلقةٍ على ذاتها، فثمة فرصٌ أُتيحتْ لتلوينِ شاكلةِ النسق المعرفي لديهم، وكذلك توافرُ حالاتٍ من التحولِ في مستوياتِ العملِ والإنجاز، بيد أن الفرصَ المهيأةَ رغم تعددها لم تفلحْ في تكوينِ نسقٍ معرفي يتأسسُ على حالةٍ فكريةٍ ومعرفيةٍ متزنةٍ وقابلة للتفاعلِ في إطارٍ جماعي ومؤسسي يضمنُ ديمومةَ الفعلِ ونجوعَ نواتجهِ في تحريكِ المياهِ الآسنةِ وبناء جسور الثقة بين مكونات المجتمع المختلفة، والعمل على تحديد استراتيجية يمكنُ التوافقُ عليها لحمل أمل التغيير. وفوق ذلك كله لم تستطعْ هذه الشريحةُ التجاوبَ مع روحِ العصرِ وحاجاته، وهذا ما انعكس سلبًا على تركيبة البيئة العربية اجتماعيًا وثقافيًا وسياسيًا. ويدركُ المتابعُ الحثيثُ لحركةِ أساتذةِ الجامعاتِ أن اليأسَ والجمودَ والتنافرَ والخوضَ في مسائل ثانوية وتصاعد حدة الصراع من أجلها هو سيدُ الموقف، أما القضايا الأساسية والجوهرية فبعيدةٌ عن قاموس التناول، وهذا ما يبدو من عجزهم عن تأسيس مؤسسات إبداعية وعلمية تُسهمُ في النهوض بالأمة، وكذلك غياب دورهم عن تسيير ركب التحول وتقاعسهم عن المشاركة في أحداثه المصيرية، زد على ذلك عجزهم عن الاندماج مع فئات المجتمع وعدم التأثير فيها، هذا على مستوى الداخل العربي أما على المستوى العالمي فلا حراك ولا حضور لهم في الندوات والفعاليات الإعلامية والنقدية والفكرية، وكأنهم في معزلٍ عن الحياة وما يدور فيها، أو أن الإطلالةَ من نافذة الإعلام أو المشاركةَ في المؤسسات العلمية والثقافية محرمةٌ عليهم، لكن لا ندري هل هي محرمة شرعًا أم سياسيًا أم فكريًا أم نفسيًا أم ماذا؟! إن أقلَّ ما يمكنُ قولهُ إن ثورةَ الشك وفقدان الثقة بالنفس هي المستوطنُ الفعلي للنسق المعرفي لدى أساتذة الجامعات في الوطن العربي، وإلا ما المبررُ في تناثر عقدهم وبروز الخللِ بشكلٍ واضحٍ في فكرهم وسلوكهم. إنهم يتحركون في واقعٍ هُلامي، فعلى مستوى فن التعامل نلحظُ أنهم لا يقبلون إلا أسلوبَ التعامل مع كهنةِ المعبد، فالكبرُ والعجبُ هما القلادة التي يفاخرُ بها القسمُ الأكبرُ من هذه الشريحة، ليس في جانبِ التعاملِ مع طلبةِ العلم وفئاتِ المجتمعِ فحسب، ولكن في إطار التعامل البيني، ولا ندري أيةَ نخبةٍ يعولُ عليها في إصلاح الوضع المجتمعي، وهي تؤمنُ بالنرجسيةِ كخيارٍ استراتيجي، ومصابةٌ بالانفصام التكويني (المعرفي، والشخصي)، ويظهرُ لنا ذلك من حجم تدفق التوجس بين أساتذة التخصص الواحد، حيث وحدة الفكر والمنهج والمقام، ناهيك عن حجم التوجس في ظل تباعد الرؤى والأفكار وغياب المصلحة المشتركة. إن الطابعَ النسقي لهذه النخبة أصبحَ في حكمِ المرضِ المعدي، فاللاحقُ يقتفي أثرَ السابق، ولك النظرُ في مقدار الضرر الذي سيلحقهُ هذا الطابعُ على المستوى الأكاديمي وتقزم حججه العلمية والبحثية التي ينماز بها هذا الصرح العلمي الشامخ. ولكي لا نُتهمُ بالغلو مع العلم إننا سنلحق بالركب قريبًا ونتمنى ألا نكون على ذات الشاكلة فإننا نشيرُ إلى مواقف تؤكدُ صحةَ ما يعتري هذا النسق، فحضورُ مناقشةٍ علميةٍ واحدةٍ لخطةِ بحثٍ أولية، أو مناقشة رسالة علمية يكفي لتبيان مدى تضخم الأنا وانفصام الشخصية لدى لجنة الحكم والمناقشة، وهذه الحالةُ هي صورةٌ مصغرةٌ تثبت لنا نوعيةَ النسق المعرفي الذي يعتملُ في ذهنية النخبة بشكلٍ شبه مطلق، وأثر ذلك في نفسية الباحث وفقد الثقة بالآخر، حيث يتعرض للتشكيك في مقدرته العلمية والمنهجية والشخصية، مع العلم أنه لا يزال في بدء الطريق يسعى لتكوين بنيته المنهجية والعلمية، وهو في أمس الحاجة للمؤازرة والأخذ بيده نحو الإنجاز وتطوير طاقاته الإبداعية والبحثية من خلال توجيهه وتصويبه بأسلوب حضاري، لا أن يوضعَ في مرمى مخاصمةٍ فكرية وذوقية يمجها الطبع الإنساني، أو أن يُعامل بشراسةٍ وغلظة. إنهُ نسقٌ معرفيٌ غير سليم، وللأسف الشديد إنه سائدٌ اليوم بشكل خطير، وأعتقدُ أنه العاملُ الأكبرُ في جمود العملية البحثية في الجامعات العربية، فليس لها أيُّ دورٍ مهمٍ يُذكر باستثناء ما حققته بعض الجامعات السعودية مؤخرًا وفي مقدمتها جامعة الملك سعود سوى تعليق دور هذه النخبة، وانعدام الثقة بمرجعيتهم العلمية، فالوظيفةُ الثقافيةُ والعلمية التي تُمارسُ في قاعات الدرس غير مجديةٍ في خلقِ وعيٍ تغييري يحركُ سكونَ المجتمع؛ لأنها ترتكز على مقومات ذلك النسق التي تؤمن بخطاب التبليغ، وترفض مبدأ التجاوز والتجريب وإثارة التساؤل؛ ولذلك كُرست الصنميةُ وقُدم العلم ومسائله في قوالب لا تثير الاهتمام، بل إن الأدهى من ذلك بروز حالةٍ عبثيةٍ تنتقصُ من قيمةِ العلم والقائمين عليه، وهذا ما يثبته الواقعُ العلمي في الجامعات العربية. من خلال هذه القراءةِ يتضحُ أن النسقَ المعرفي للنخبة في العالم العربي غير متوازنٍ مع وعي اللحظة المعاصرة الذي يستهدفُ تحريكَ البيئةِ الفكريةِ والاجتماعية والعلمية والسياسية في المجتمع، وأن مصادرَ التأثيرِ في وعي المجتمع منكسرةُ الجانبِ ومنكفئةٌ على ذاتها؛ ولذلك فهي لا تثيرُ ردودَ فعلٍ تحركُ سكونَ الظرفِ الراهن، أو تُلغي صيغَهُ المتكلسة، وهذا الوضعُ ليس له من حلٍ سوى محاكمته بأدوات فاعلةٍ تخترقُ ضميرَهُ النسقي وتلامسُ مواضعَ الإثارةِ بطريقةٍ مباشرةٍ وحادةٍ من أجلِ صناعةِ طفرةٍ فكرية وثقافية واجتماعية تهدُ أركانَ النسقِ المعرفي الماثل للنخبةِ وتبني على إثرها نسقًا معرفيًا ذا سماتٍ واعيةٍ تتجاوبُ مع روحِ العصرِ وضروراته العلمية والفكرية، وتؤمنُ بمبدأ التحولِ المستمرِ والتفاعل مع كلِ قضيةٍ تسهمُ في تطويرِ أنساقِ المجتمعِ وتُفَّعل من وظائفه.