سلك نعش عميد الصحافة اللبنانية النائب والوزير والسفير السابق غسان تويني، محمولاً على الاكتاف أمس، الطريق ذاتها ما بين مبنى صحيفة «النهار» وساحة النجمة، التي كان مشاها نعش الابن جبران تويني قبل نحو سبع سنوات؛ وخلفه سار المئات، مودعين بالدموع والحسرة رجلاً صنع جزءاً من تاريخ لبنان وكتبه. المحطة الاولى للرحلة الاخيرة كانت امام مبنى «النهار» في وسط بيروت حيث كانت اسرة الصحيفة تنتظره بلباس الحداد. حُمل النعش عالياً على اكف الزملاء وأُدخل الى دار المطبوعة اللبنانية التي قادها منذ اواخر اربعينات القرن الماضي لتتبوأ مرتبة عالية، وكان في الانتظار افراد العائلة: ارملته شادية الخازن وحفيدتاه النائب نايلة وشقيقتها ميشيل وأرملة نجله سهام جبران تويني، والرئيس أمين الجميل وزوجته جويس، النائب مروان حمادة، الوزيران السابقان زياد بارود وطارق متري، وإعلاميون. دار النعش دورته الاخيرة مطمئناً الى إرث اعلامي اقسمت نايلة تويني ألا يموت، وتابع سيره في اتجاه مبنى المجلس النيابي قبالة كنيسة مار جاورجيوس في ساحة النجمة. دار دورة ثانية امام ناظري نواب انتظروا الجثمان عند أدراج البرلمان بصمت معبر، والتف النعش باتجاه الكنيسة التي شرّعت ابوابها امام مئات آخرين فاضت بهم القاعة الى الخارج، وكان ينتظر النعش الوزير غازي العريضي، والنائبان نضال طعمة وانطوان سعد. مراسم الجنّاز لراحة نفس الراحل كانت مقررة في الثانية عشرة ظهراً، وقبل حلول الموعد كانت المقاعد المخصصة للوزراء والنواب والديبلوماسيين والمديرين العامين والعسكريين والقضاة ورجال الدين والسياسة والإعلام امتلأت حتى الاختناق. وتقدمهم رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ممثلاً رئيس الجمهورية ميشال سليمان والنائب عبداللطيف الزين ممثلاً رئيس المجلس النيابي نبيه بري، ومثّل الأمين العام لوزارة الخارجية الأردنية السفير محمد علي الظاهر العاهل الاردني الملك عبدالله الثاني فيما مثّلت وزيرة الدولة الفرنسية للشؤون الخارجية يامينا بنغيغي الدولة الفرنسية. وغطت جدران الكنيسة اكاليل الزهر من شخصيات سياسية وإعلامية عديدة، وأبرز الاكاليل من رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية القطري الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني ومن الامين العام ل «الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين» نايف حواتمة. ووضعت بالقرب من النعش اكاليل باسم «نادية» (زوجته الراحلة) و «جبران». وبعدما سُجي النعش في وسط قاعة الكنيسة وغُطي بأكاليل زهر الاوركيديا البيضاء وأُضيئت فوقه شمعتان وتقدمته صورة للراحل وهو يبتسم متأملاً الحضور، جلست اسرته خلف النعش وتوزع الحضور، فجلس رئيس كتلة «المستقبل» النيابية فؤاد السنيورة الى جانب الرئيس السابق للمجلس النيابي حسين الحسيني الآتي من حزن آخر بوداعه زوجته الفقيدة حياة الحسيني، والى جانبهما جلست الوزيرة السابقة نايلة معوض وأرملة رئيس الجمهورية السابق منى الياس الهراوي ووزير الخارجية عدنان منصور. وجلس قريباً نائب رئيس المجلس النيابي فريد مكاري ونائب رئىس الحكومة سمير مقبل، الوزير السابق الياس المر ونواب من «المستقبل» ونادر الحريري؛ وممثل البطريرك الماروني راعي ابرشية بيروت للموارنة المطران بولس مطر، وممثل بطريرك الارمن المطران كوبرنيك اوهانيان، وحضر اركان مجلس نقابة الصحافة برئاسة النقيب محمد البعلبكي و «قدامى النهار» ممن توزعوا في مؤسسات إعلامية اخرى. وترأس الصلاة بطريرك الروم الارثوذكس اغناطيوس الرابع هزيم، يحيط به متروبوليت بيروت الياس عوده ومطران جبل لبنان جورج خضر، الى جانب الكهنة، وتحدث هزيم في كلمته عن معرفته بالفقيد منذ الدراسة معاً «في الجامعة الاميركية، وكان غسان بالنسبة الينا مثلاً. كان الشخص الذي يساعد الكثيرين». وقال: «لا احد يمكنه ان يتكلم عنك. انت اكبر بكثير مما يمكن ان نقول. سنلجأ الى أخينا المتروبوليت خضر لينوب عنا في إلقاء كلمتنا». المطران خضر واستعاد المطران خضر في كلمته: «حين تحلقنا حول جثمان مكرم كنت تشارك الترتيل، وتصلّب وجهك، أم تذكر بعد أن صلّينا على جبران هنا أنك وقفت على هذه الدرجات أمام جثمانه تقول: دفنا الأحقاد مع جبران فتخشعنا فوق كل شيء» تبقى المؤمن الغفور، لم تجذبك سخافة هذا العالم، ولكنك كنت شغوفاً بالقيم التي تنزل عليك، قلبك قلب داعية، لذلك قلت لك وأنت لست سياسياً بل انت فيلسوف في السياسة والصادقون فيها اقتبسوا منك الحكمة، فلا تخاصم ولا تحقد، من كل هذه الزوايا أمكن القول انك إغريقي العقل، أوروبي الهوى، متنور مشرقي ذو لسان عربي تحمل كل هذا الميراث في اعتزاز وزهد بآن». وتحدث عن «النهار» حيث «تنوعت المقالات عند زملائك او تناقضت وكان في هذا خدمة للحقيقة والحرية، وآمنت بالحكم الذي يرعى الحريات ورفضت حكم العسكري، وقيل ان الشورى لا تحتاج الى غيرها لكونها العقول تتلاقى بالتواضع الذي قال عنه آباؤنا انه القمة في سلّم الفضائل. الكثير من ميزاتنا اذا اجتمعت ستأتي منك يا غسان، كنت في قلبي الحبيب». وقال: «امتحنك الموت في كل عائلتك ولم ترزح، ليس لأنك جبّار، ولكن لكونك مؤمناً، الموت قبل أن يتخذه المسيح كان مقيتاً، نحن يا غسان قياميون بامتياز ومن رآنا يوم الفصح له أن يقول هؤلاء سكارى في إيمانهم، أي بهذا الذي جعل فيهم هذا الايمان لكونه قام حقاً، وهم يعيشون بهذه القناعة وقد حلّت بهم المشقات في كل بلدان الانتشار وقاسوا ما قاسوا فوق كل تصور او وصف». وسام الأرز ووقف الرئيس ميقاتي امام النعش يرثي «الراحل الكبير مالئ الدنيا وشاغل الناس، ملأتها في كل حقل عملت فيه، في الإعلام وفي التربية وفي السياسة والديبلوماسية، شغلتهما في حمل لواء حرية الكلمة، وقيم التسامح والغفران ومبادئ الحوار والقبول بالآخر». وأضاف قائلاً: «قيل الكثير في غيابك وسيقال اكثر ولكن حتماً لن تفيك اي كلمة حقك، أنت الذي حملت قضايا لبنان والعرب في المحافل الدولية، وتقديراً لعطاءاتك ووفاء من لبنان تجاهك قرر رئيس الجمهورية ميشال سليمان منحك وسام «الارز الوطني» من رتبة «الوشاح الاكبر» وكلفني أن أضعه على نعشك في يوم وداعك». نايلة تويني وأبكت الحفيدة نايلة تويني بكلمتها ودموعها الحضور، قالت: «يستطيع غسان تويني أن يغمض القلم والقلب واليدين ويستطيع ان ينام قرير الجسد والعينين، بعدما ضاعف الوزنات وأكمل الجهاد الحسن وسلّم الأمانة وعاد لينضم الى الحبر الاصيل، لن أرثيك يا جدي، لن ارثيك يا غسان تويني ولن أبكيك، ليس عندي سبب واحد لأرثيك وأبكيك، يكفيني ويكفينا ويكفيك اعتزازاً وعزاء أنك تكسر بموتك اسطورة سيزيف الاغريقي الذي حكمت عليه الآلهة بالقصاص الأبدي لأنه أغضبها، أما أنت يا غسان تويني فها هي صخرتنا وأنت سيزيفنا اللبناني، الفلسطيني السوري بل العربي والانساني تنتصب بعنفوانها وكبريائها وتنتصب خصوصاً بحبرها في حضرة الجبل الإلهي». وأضافت: «يا سيدي وجدّي ويا أبي بعد اغتيال أبي، اذا كان جبران أطلق القسم الشهير في ساحة الشهداء، ساحة الحرية، فأقسم أنا امامك في هذه الكاتدرائية العظيمة في حضرة الأب الإلهي وفي حضرة هذا الجمع المهيب أن الأمانة، أمانة النهار أمانة لبنان الديموقراطي المدني الجمهوري المتنوع، السيد الحر المستقل، أمانة العروبة الحضارية، وأمانة الحرية والقيم والاعتراض والحداثة والثقافة لن تسقط وستبقى كما جعلتها شامخة كالأرز سيدة طليعية متجددة وحرّة، من كل مساومة أو قيد أو شرط. وسأقول لك يا جدّي ان هذه الأمانة تقتضي مني ان يكون إرث النهار في عنقي وفي أعناق زملائي جميعاً، وهو ارث مهني عظيم تاريخي متواصل ومتجدد، لكنه أيضاً ارث سياسي ديموقراطي ومجتمعي بل أيضاً ارث فكري لغوي أدبي ثقافي حضاري وأخلاقي. وسأقول لك ان أباك جبران سيكون معي وسيكون أبي جبران معي وأختي ميشال وأخواتي ناديا وغابرييلا، وسأجعل الجميع، جميع الزميلات والزملاء والأحرار يحملون معي هذا الارث العظيم». وقال: «هل تذكر ذلك اليوم الذي قلت لك فيه ان الموت لا يبعدنا عن أحبائنا، سأنتظرك كل مساء، سأجلس الى ذلك المكتب ومعي كل الارث الوطني الذي تركته لنا وللبنان، تعال أنت وجبران فثمة أحاديث لم تنته بعد، وثمة مسيرة نضالية لن تنتهي بعد، يا جدّي لا تقلق على شادية فنحن جميعاً معها، أما أنت فسلّم على جبران، قبّله طمئنه على نائلة وميشيل وناديا وغابرييلا، أخبره ايضاً عن جبران الصغير الذي تعلم كلمة «جدو» فأحبها وبدأ يرددها باستمرار. ويا أحباء جبران وغسان، يا احباء النهار ويا أهل النهار، اطمئنوا، جبران الاول لم يمت وجبران الثاني لم يمت وغسان لم يمت، أما «النهار» فأقسم وأعاهد أنها مستمرة». البعلبكي وشدد النقيب البعلبكي في كلمة عن الراحل، على «تشبثه المستمر المتعاظم بالحرية سبيلاً الى نور المعرفة والى التمرد الخلاق بكل ما يفتح مثل هذا التمرد من آفاق التغيير والتطير طلباً للأجمل والأعلى والأمثل. انه المتمرد بامتياز على كل الواقع لا سيما واقع الجهل، والتخلف وأكاد اقول المتمرد حتى على الموت، امتحن أقصى امتحان ليتفيأ ظل الله، وكان أبداً في كل ما كتبه وما فعل في حضرة الحرية، حتى غدا في الصحافة عرقها النابض من دون كلل». وتقبلت العائلة والأصدقاء العزاء في صالون الكنيسة، ثم ووري الجثمان في مدافن مار متر في الاشرفية. وكان ميقاتي التقى في السراي الكبيرة الموفدين الاردني والفرنسية ونفى السفير الظاهر اي نية لدى الاردن للطلب الى رعاياها مغادرة لبنان أو عدم المجيء اليه. ووصفت الموفدة الفرنسية تويني بأنه «خسارة كبيرة للبنان، رجل أعطانا الكثير من الدروس، فهو على رغم الآلام الشخصية التي مر بها لم يخرج عن مسار المطالبة بسياسة اللاعنف وعدم المناداة بالثأر». وكانت مواقف النعي لغياب تويني تواصلت ومن ابرزها بيان ل «التيّار الوطني الحرّ».