ربما حدثتك نفسك في هذا الزمن عن كثرة كاثرة من عبدة الدنيا النفعيين والمرتزقة، فإن هي أكثرت عليك من حديثها عن هؤلاء فحدِّثْها أنت عن كِبارٍ شرفاء منبثِّين بيننا من المخلصين المصلحين الأمناء، ولو أجلْتَ في الناس ناظريك فلسوف تقع عيناك على شخصية إيجابية فذة، جعلتْ من نفسها شمعةً وضّاءةً تحترقُ لتضيء للآخرين، تعطي من نفسها أكثرَ مما تأخذ لها، وتفعل أكثر مما تقول، لا تنافق ولا تتملق، ولا تواري ولا تخادع. قد آثرتْ أن تعمل بصمت متواريةً عن أضواء الشهرة إلا ما لا بد منه، ولم تؤثر العمل بصمت لأن بها من العِي ما يعقد لسانها عن الكلام، فلهي أقدر عليه لو أرادت، ولهِيَ أبلغُ في الحديث من أولئك الذين يحسنون الكلام ويسيئون الفعال. ولم تؤثر العمل بصمت لأنها لا تجد من إنجازاتها ما تتحدث به، كيف ولديها من ذلك ما لا تعجَزُ أن تتحدث عنه الساعاتِ الطوال لو أرادت؟! وهل يكون أقدرَ منها على ذلك الأفاكون، الذين يسرقون الجهود، ويتزيّنون بإنجازات غيرهم؟ أيكون أقدرَ منها على ذلك أولئك الذين يتشبّعون بما لم يُعْطَوا، ويحبّون أن يُحمَدوا بما لم يفعلوا؟ والعربةُ الفارغةُ أكثر من الملأى ضجيجاً. أمَا إنها قد آثرَتْ الصمتَ على الكلام، لأنها قد استغرقت وقتَها في أعمالها الجليلة، فلا وقت لديها للكلام، وآثرت الصمت؛ لأن منطلقَ أعمالها من قاعدة الإخلاص لله، ولأنّ طاقاتِها تفجرت من معين حب الوطن وأهله، ومن كان منطلق عمله هو هذا فسيّان عنده أن يعلم الناس بعمله أو يجهلوا، وسيانَ عنده أن يمدحوه أو يُذهِلَهم عمله الصامت عن مديحه. قد يتراءى لأحدنا أنها شخصية مثالية، وأنها اليوم أعز من الكبريت الأحمر؛ لكننا نقول: لو فتّشت عنها لعثرت عليها، بل ربما وجدتها في منصب رفيع يغري بالكبر والغرور؛ ولكن النفس الكبيرة أكبر من أن تغيرها المناصب، وأثقل من أن تطيش بها كفة المنصب، أو يستخفها جاه؛ لأنها مثقلة بعقل رزين وهمة عالية وإيمان صحيح لا رياء فيه ولا سمعة، بها يشرف المنصب، وليست هي التي تشرفُ به، على نقيض النفوس الصغيرة التي هي أهل أن تغيّرها المناصب؛ لأنها وضعت في موضع لا تستأهله، فهي تتعاظم لتكون في درجته. إن هذه الشخصية الفذة يَجهَدُها من الصبر شِدّتان: شدة الصبر في البداية أمام المغريات، ثم شدة الثبات على الصبر حتى النهاية؛ فإنه مع طول الأمد قد ينفد الصبر، فيُجاب الداعي، وتزِل قدمٌ بعد ثبوتها. وتأتي هذه المعاناة في صورة وساوس شيطانية كلما خلا بنفسه أو هجع إلى فراشه بعد يوم حافل بالأعمال: ماذا جنيتَ من كل هذا النصح والتجرد؟ ها أنت ذا قد أخلصت واجتهدت، فما درى بك أحد، ولا كوفئت على معروف ودفعِ فسادٍ سوى كليمات شكرٍ عابرة، ثم ما لبثَ الناس أن نسَوْكَ أو تناسَوك، وها هم الوصوليون النفعيون الذين رأيت فيهم الاستخفاف بالأمانة قد سبقوك، وتدرّجوا في مراتب الغنى بأسرع ما يكون، بطرقٍ تسميها أنت ملتوية محرمة، ويسمونها هم فرصة العمر، فاختصروا الأعمار، ولم يزالوا مع كل ذلك محلاً للحفاوة ومثالاً يُضربُ للوطنية الصادقة، ولا زلت أنت في التعب واللغوب، تُحرق نفسك، وتنهك جسدك، وتُضيعُ عمرَك، فهل تراك على حقٍ وأنت واحد، وتراهم على باطل وهم كثرةٌ كاثرة؟! وتتوارد في ذهنه هذه الوساوس كثيراً، وتلح عليه إلحاحاً كلما خلا بنفسه وقارن بين حاله وحال أولئك، فهل يُؤمن عليه أن ينهزم صبره فتصيبه هذه الوساوس الشيطانية في شرفه وديانته؟! أليست البيئة من حوله موبوءة بأمراض الأثرَة والنفعية والمحسوبية وخفة اليد، وهل سيسلم من مكايدات أطرافٍ أخرى طالما أحرجها بنزاهته وإخلاصه؟ أليست من المحتمل أن يمارسوا معه حرباً نفسيةً، فيشعر وهو محاطٌ بهذا المكر الكُبَّار أنه وحيدٌ بلا ناصر ولا معين؟! إن هذه النماذج الفذة بحاجة إلى أن نقيم لها ضماناتِ بقائها، ونحمي دعائم وجودها، بحاجة إلى أن نحوطها بالتشجيع والتوقير، وأن نسمعهم من الثناء ما يدفعهم إلى المزيد من الإخلاص والبذل، وأن نُشعرهم أنهم في مجتمعهم غيرُ منسيين، وأن الناس يثنون عليهم في مجالسهم، ويكافئون إحسانهم وإخلاصهم بدعاءٍ خالص في ظهر الغيب. * أكاديمي في الشريعة. [email protected] @ samialmajed