سيكون مشروعاً تماماً اتهامُ النظام السوري بالاستثمار في الورقة الطائفية، وصولاً إلى تصويره الثورة على أنها ثورة أصولية سنّية، مع أن الخلاصة الأخيرة أيضاً لا تشفع لبقائه في السلطة إذا اعتمدنا المنطق العددي في الحساب الأكثري والأقلوي. ثمة افتراض خبيث يريد النظام ترويجه، مفاده أن الثورة لم تكن لتحدث لو أن العائلة الحاكمة انتمت إلى مذهب الغالبية، وبهذا يتنصل من أفعاله ملقياً بالتبعات على انتمائه الطائفي. لكن تفنيد زعم النظام لا يعني تلقائياً نفيه تماماً، إذ ليس من المستبعد أن يساعد الانتماء الأقلوي له في ترسيخ الشعور بالتهميش والنقمة لدى الأكثرية المذهبية. والحال أن تقاذف الاتهام بالطائفية، تلميحاً أو تصريحاً، تفاقم إلى حد يغري بالتشكيك في النجاح الساحق للنظام على هذا المضمار تحديداً واحتسابه له فقط. بعد مرور أشهر قليلة على بدء الثورة أخذ تقاذف الاتهامات بالطائفية يظهر إلى العلن في أوساط المعارضة أيضاً، ولم يعد مقتصراً على الأحاديث الشفوية الجانبية كما كان يحدث من قبل، وعلى رغم إنكار البعض وجود اصطفافات سياسية على خلفية طائفية إلا أن هذه القناعة راحت تترسخ لدى البعض الآخر لتزيح ما عداها من اعتبارات، وصولاً إلى ما يبدو أنه إقرار نهائي بوجود المسألة الطائفية والاختلاف فقط حول الطرف الذي يتحمل مسؤوليتها. لقد تبين خلال 14 شهراً من الثورة أن إعادة الاعتبار لفكرة المواطنة تصطدم بحقيقةِ غياب الوعي الوطني، فالمجوعات السورية لم تختبر سوى مدة وجيزة في الخمسينات فكرةَ الاجتماع الوطني الطوعي، بينما تربى أغلب السوريين الفاعلين اليوم على بديهية الوجود القسري للوطن ممثلاً بالنظام ومُحتَكراً من قبله. في ذلك المناخ لم يكن مسموحاً بأن تتعارف المجموعات في حقل السياسة، أو أن تختبر نفسها فيه، بما أن السياسة برمّتها كانت مغيَّبة، وإذا كان الانتظام الطائفي ممتنعاً بطبيعة الحال فإن اختراقه على أسس وطنية حديثة كان ممتنعاً أيضاً. ما كان ممكناً بحكم الواقع هو أن تتقنع تجمعات بدعاوى أيديولوجية حداثية، بينما تسود فيها روابط ما قبل حداثية، بما في ذلك تحدر الغالبية الساحقة في كل تنظيم من لون مذهبي أو إثني واحد. وبالمثل، كانت هناك سردية رسمية للتاريخ السوري، بينما كانت لكل مجموعة سرديتها الخاصة عن التاريخ البعيد والقريب، ولم تمنع الرواية البعثية من استمرار تداول السرديات الأصغر ضمن كل مجموعة وتوريثها للأجيال الجديدة. ومن المؤكد أن الروايات المقصية بقيت فاعلة في اللاوعي الجمعي لأصحابها، ذلك الفعل الواقع تحت الحصر العام، والمعرّض بالتالي إلى التفاقم من دون أن يتم امتحانه بالواقع، وأيضاً من دون أن يصبح زمنياً، أي أن يتموضع ضمن ظروفه ومبرراته. من ذلك، وفي التاريخ القريب على سبيل المثال، أن السردية الرسمية تكرس بالمطلق شخصية صالح العلي كأحد أهم رموز الثورة على الفرنسيين، بينما يُنظر إليه من قبل أبناء الطائفة الإسماعيلية بوصفه مجرماً وقاطع طريق، ويؤكدون أن صالح العلي لم يكن ليصطدم بالفرنسيين لولا أن منعوه من مواصلة محاصرة الإسماعيليين والتنكيل بهم. من ذلك أيضاً ما يتداوله علويو سورية عن مذابح واضطهادات تعرضوا لها على أيدي السنّة المحليين، بخاصة أيام الحكم العثماني، فضلاً عن الشعور التقليدي بالتهميش بوصفهم أبناء ريف. لم تفلح التطورات المعاصرة الطبيعية في محو التصورات الخاصة لكل مجموعة، فالهجرة الداخلية التي تفاقمت على نحو سريع خلال العقود الأربعة الماضية لم تؤدِّ إلى التقارب الممكن، بل زادت من حدة التنافر في بعض المدن بسبب التنافس على الموارد، معطوفاً على الإرث الطائفي السابق. ومن نافل القول إن السياسة الأمنية المعتمدة استثمرت طوال الوقت في الإبقاء على عوامل الانغلاق على الآخر، ومنعت الجميع من التعبير العلني الشفاف عن المكنونات الحقيقية، تحت زعم الوحدة الوطنية. في الواقع كان يمكن للاختلاط غير المسبوق بين السوريين أن يوفّر مناسبة جيدة للحوار الوطني وطرح الهواجس المتضادة من قبل الجميع، لولا أن ذلك كان ليعني انتزاع مفهوم الوطن من الطغمة المحتكرة له، وهذا ما لا تسمح به حتى الآن. إن تجاوز المسألة الطائفية والإرث المتعلق بها، بالإعراض عنها، يماثل من حيث النتيجة إنكارها من قبَل النظام سابقاً، وهو يأتي من قبَل بعض المثقفين حالياً حتى إن أتى بدواعي الحرص على الثورة. إذ من الصحيح أن المنسوب الطائفي الحالي أعلى من المعتاد، في دلالة على التحول الكبير الذي تبشر به الثورة، أو تنذر به البعض، لكن الوعي المأزوم حالياً ليس نتاج «الأزمة» وحسب. لذا سيكون من الأجدى الاعتراف بوعورة المجتمع السوري، وتحمّل مسؤولية معالجة ما راكمه النظام، بل الاعتراف بأن المشكلة أكبر من أن تُسجّل للنظام حصرياً، لأن عهود التعايش الذهبية التي يستشهد بها البعض لم تكن في الواقع قاعدة راسخة يوماً ما. وإذا كان الوضع الراهن ليس الأنسب لفتح الملف الطائفي الشائك فذلك حكم الواقع الذي لا مناص منه، وبناء عليه ينبغي البحث عن السبل الأنجع لانتشال النقاش من منطق العنف اللفظي، أو العنف الجسدي المباشر. لقد تبين مع الأسف أن الثورة والسوريين ليس بوسعهم، خارج سلطة القهر، التعاطي مع الوطن السوري كمعطى ناجز فعلاً. ويترتب على الثورة، من ضمن التركة الثقيلة الملقاة عليها، أن تعيد إنتاج المسألة الوطنية على أسس ديموقراطية تعتمد مبدأ التكافؤ الحقيقي أكثر مما تلمّح إلى مبدأ المساواة العددي. هنا في وسع الثورة طرح نفسها كمعركة استقلال جديد، من دون أن يذهب الوصف فقط إلى تشبيه النظام بسلطة احتلال، أي فيما لو استطاعت تحقيق فكرة المواطنية المتكافئة عطفاً على تحقيق الوطن بالإرادة المشتركة لأبنائه. لقد أثبتت الثورة أيضاً أن الأنظمة الديكتاتورية لا تبني أوطاناً، وإذا كان ثمة مقدار قليل من القسر الضروري فهو ذلك الذي يتفق المواطنون على تفويض الدولة به. لقد نجح النظام في إعاقة الممكنات الأفضل لسورية، وعلى مشارف انتهائه يبدو تحقيق الفكرة الوطنية أصعب من لحظة استيلائه على الحكم، أما الأصعب والأكثر كلفة فهو السماح له بإسقاط ما تيسر إنجازه، بحكم التطور الزمني الطبيعي، من فكرة الوطن. * كاتب سوري