ليست الحساسيات الطائفية في سورية بالأمر الجديد، وليست أيضاً بالخطر الداهم الذي يهدد وجود الكيان السوري أو وجود واحد من مكوناته. الجديد هو طرح هذه المسألة من جانب الحكم الذي دأب سابقاً على إنكار أي وجود للحساسية الطائفية، وكانت تهمة «إثارة النعرات والوهن بين عناصر الأمة» تتربص بمن يشير ولو عن حسن نية إلى مكونات المجتمع السوري. المسألة الطائفية في سورية، إن جاز هذا التعبير، هي في منزلة بين منزلتين؛ فلا هي بالوضع الذي يمكن التقليل من شأنه أو تجاهله، ولا هي بالوضع المهيأ للتكريس سياسياً على الطريقة اللبنانية أو العراقية. بين هذين الحدين قد تكون مناقشة الشأن الطائفي السوري السبيلَ الأنجع ليأخذ حجمه الواقعي، فلا يقع في فخ اصطناع الطائفية السياسية أو في فخ استعارات خارجية تودي به إلى نتائج معروفة سلفاً. لن يكون مفيداً أن نسترجع عهد النضال الوطني ضد الاستعمار للتدليل على وحدة المجتمع السوري بكل طوائفه، فهو زمن مختلف كلياً عن زمن الاستقلال، على رغم ذلك لا بأس بالإشارة إلى أن واحداً من أسباب الوضع الطائفي يعود إلى أيام السلطنة العثمانية، وهذا ما تشترك فيه سورية مع سواها من بلاد خضعت للحكم العثماني؛ فالخلافة العثمانية ذات المذهب الرسمي السنّي عملت خلال حكمها على إقصاء الطوائف الأخرى، و «الأقليات» عموماً، عن المركز المديني الذي هو في الوقت نفسه المركز الإداري والاقتصادي، مع الأخذ في الحسبان انتماء السلطنة إلى مفاهيم الإمبراطوريات القديمة لا إلى مفهوم الدولة المعاصرة. لقد أدى الحكم العثماني المديد إلى استقرار «الأقليات» في الأرياف والجبال، من دون أن يعني ذلك اقتصار سكان الريف عليها، لكن هذه القسمة لن تكون بلا أثر كما سنرى لاحقاً. في واحد من جوانبها التبست الحساسية الطائفية السورية بالحساسية المعهودة بين أبناء الريف والمدينة، وحيثما كانت المدينة وريفها منطقة احتكاك طائفي اندرجت الرمزيات المذهبية في هذه الحساسية، أو طغت عليها، من دون انتباه إلى وجود الحساسية ذاتها بين أبناء المدينة وريفها في مناطق ذات نسيج مذهبي متجانس كما في دمشق وحلب. بل إن غلبة التمايز الطائفي في مناطق الاحتكاك أدت أحياناً إلى طغيان الجزء على الكل، فصار لكلمة «ريفي» لدى البعض معنى الإهانة التي تُوجه إلى العلوي حصراً، متناسين في ذلك أن الغالبية الساحقة من السوريين تنحدر من أصول ريفية سواء كانوا سنّة أو علويين أو غير ذلك من المذاهب والأديان. التحول الكبير حدث مع ستينات القرن الماضي وسبعيناته متزامناً مع انقلاب البعث وتسلمه السلطة، حينها تدفقت موجات هائلة من الريفيين الآتين إلى المدينة لاعتبارات تتعلق بحوافز الارتقاء الاقتصادي والاجتماعي. لم تكن المدن السورية مهيأة لاستيعاب هذا الحجم من «الغزاة» الريفيين، فضلاً عن استقوائهم بالسلطة الجديدة، وينبغي ألا يغيب عن بالنا أن البعث الحاكم استمد جلّ شعبيته من الريف السوري، مرة أخرى؛ الريف السوري بكل مذاهبه بما فيها السنّة. إن النظر إلى الوافدين من أبناء الريف كغزاة شائع في كل المدن السورية، لكنه يكتسب حدة إضافية مع وجود الفوارق المذهبية، ومن ثم مع الفوارق الاقتصادية التي سلكت مساراً انتقائياً قاطرتُه الفساد. كما هو معلوم، لم ترسخ سلطة البعث مفهوم الدولة، فعلى الصعيد الأيديولوجي كانت سورية وطناً انتقالياً بانتظار دولة الوحدة، وعلى الصعيد الواقعي كان ترسيخ الفوارق الاجتماعية وتحويلها إلى انقسامات ضمانةً لرسوخ الاستبداد، ومع الوقت اضمحل البعد الأيديولوجي للسلطة ليفسح المجال واسعاً أمام روابط ما قبل الدولة. ومرة أخرى تلتبس الحساسية الطائفية بتخلف السلطة نفسها، فتبدو السلطة طائفية من دون أن تكون كذلك حقاً، أو من دون أن تكون كذلك دائماً. فالنمط الذي هيمن على السلطة هو نمط المحسوبيات وعلاقات القرابة، ولعل هذا التوصيف يضع المظهر الطائفي في إطار أقرب إلى الواقع، إذ تحولت مؤسسات الدولة إلى نوع من الإقطاعات يهيمن عليها متنفذون يوظفون أقاربهم خارج كل معايير الكفاءة، وبما أن نسبة معتبرة من أصحاب القرار تنتمي إلى طائفة معينة فقد تغلبت شبهة الطائفية على ما عداها من عوامل الفساد والتخلف، لكن التدقيق بالأمر يفيدنا بأن بعض أغلب المؤسسات اتخذت طابعاً عائلياً أو مناطقياً يتعلق بالمسؤول عن المؤسسة بصرف النظر عن طائفته. يعرف كثيرون من السوريين أن توزيع مغانم السلطة يتم على قاعدة الولاء لا على أسس طائفية، ولا تزال هناك نسبة كبيرة من الريف المحروم الذي يقطنه العلويون أسوة بالأرياف الفقيرة التي يقطنها السنّة، ومن الشائع أن نرى مزرعة فارهة لمسؤول كبير تتمتع بكل الخدمات الحديثة بجانب قريته التي بقيت تفتقر إليها. ومن المعلوم أن السلطة في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته لم تحابِ المعارضين لها من أبناء الطائفة العلوية، وأعداد المعتقلين السابقين من أبناء الطائفة أكبر من أن تُحصى، أي أن الثواب والعقاب مرتبطان بالولاء قبل كل شيء. قد يختلف الأمر قليلاً في أثناء الانتفاضة الحالية، فالأجهزة الأمنية تحاشت بمكر اعتقال شخصيات علوية معارضة معروفة لتبقي على الصورة التي تحاول ترويجها عن طائفية الانتفاضة، مع الإشارة إلى تعرض هذه الشخصيات إلى أنواع من التشهير والإساءة والبلطجة لا تقل عن الاعتقال. ما سبق لا يرمي إلى تنزيه السوريين جميعاً عن النزوع الطائفي المبني على أسباب مذهبية فقط، فلا شك في وجود نسبة ضئيلة من الطائفيين في جميع الطوائف، ولا شك في أن الشحن الطائفي المنظم الذي ابتغى محاصرة الانتفاضة قد أثر غرائزياً في البعض، وطغى أحياناً على الحوار العقلاني الهادئ، لكن ذلك كله يبقى في مرتبة لا تصل إلى ما يُلوَّح به من خطر نزاع طائفي شامل أو حرب أهلية. إن جزءاً من ملامح الطائفية السورية تسبب به التأويل السطحي لظواهر عامة غير مذهبية لا تختص بها سورية وحدها، ساهم في ذلك إنكار وجودها أصلاً، ومهما قلنا عن مسؤولية الحكم في خلق المشكلة، فهذا أدعى لأن يتحمل المجتمع مسؤولياته تجاه نفسه فلا ينزلق إلى ما يُخطط له. في طريقهم إلى المستقبل الذي ينادون به يجدر بالسوريين ملاحظة أن الطائفية تتنافى مع الخيار الحر لكل فرد، وأن الديموقراطية تتنافى مع تهميش أي مكون اجتماعي أو ثقافي، ومن المؤسف أن هذا النقاش يختزل سورية بسنّة وعلويين فيغيّب وجود الطوائف المسيحية والدروز والإسماعيليين والأكراد؛ بمعنى أنه يغيّب صورة سورية أيضاً. * كاتب سوري