يقف الفنان التشكيلي حسن جوني بين ماضيه وحاضره، كمن يستجمع ثمرة تجاربه في قبضته كي ينثر ألوانها بحريّة على فضاء مشغول بهموم الإنسان المعاصر. وهو في معرضه الذي أقامه في غاليري ألوان (الصيفي فيليج) بعد سنوات من التحضير، يكشف عن هواه المستجد لغزو اللون، بل لغلواء الألوان الحمضية والبركانية والسندسية الخضراء، لكأنه للمرة الأولى يدرك مذاق الألوان بنهمها وصداميتها ووحشيتها وشراستها وقدرتها على البوح بتفجرات المشاعر وما يضج في مخزون الذاكرة. ثمة ذاكرة لموضوعات حسن جوني جاءت على مر السنين، انبثقت من شخصيات نموذجية وجماعات إنسانية مقطوفة من الواقع اليومي، وفق مناخات تعبيرية ذات طبيعة سوسيولوجية ووجودية متجذرة في المكان بكل تبعاته ونتائجه. فظهر لديه الباعة المتجولون على قارعة الطريق وهم يدفعون عرباتهم قدماً فيما الأرض تنزلق من تحت أرجلهم، وظهر رواد المقاهي وباعة الصحف وأصحاب الحوانيت والمتنزّهون على شاطئ البحر والعشاق في ضوء القمر والنازحون المهجّرون الحاملون أمتعتهم على مناكبهم، قبل أن تحط الريشة رحالها على تصوير مشاهد الأبنية المترنحة والبوسطات المشحونة بأهل القرى وألوان البساتين ووحول الأرض. وسرعان ما انخرطت موضوعات حسن جوني في مجريات الحرب اللبنانية، كي تعكس هذا الواقع المأسوي المعيشيّ بكل ما ينطوي عليه من دمار وخراب وهجرة، بأسلوب الإيجاز المعبّر والتلميحي، والإيهامي الساخر والظريف أحياناً والمؤلم في العمق. ثمة أشياء لم تتغير في فن حسن جوني كامنة في سر هذا الانخطاف اللوني الذي يحتفي بالسراب وغلالات النور وزرقة البحار وملاك الحب، مما ينتشل الموضوع من واقعيته الفجة والمستعصية، إلى الغيبوبة التي تشبه الحلم. وفي هذا المعنى تندمج المأساة الإنسانية بروح الشعر وخيلائه واستعاراته ورموزه، مما يحيل القسوة الدرامية المفترض حدوثها إلى مبادئ استيطيقا الجمال. هكذا تبتعد تعبيرية حسن جوني عن مظاهر التشويه والتحوير والتحطيم (كما هو مألوف في فنون الغرب)، في طريقة التشخيص الإنساني كي تستقبل الموضوع على أنه دراسة للأشكال الإنسانية المؤسلبة في هيئاتها، وبملامحها شبه الغائبة رغبة ألا تكون شيئاً محدداً بذاته كي تصلح أن تنطلي على أي إنسان في بيئة اجتماعية مماثلة. وفي هذا الوجه من التعميم راحة للفنان كي ينصرف إلى معالجة التأليف المعتمد في شكل رئيس على عنصر الحركة. الوقت والحركة إنها الحركة الخاطفة والهوجاء التي يقطفها في ذروتها من الانفعال والتوتر، كي توحي بالشّدة والفوضى والتبعثر والضياع. إذ إن مسألة ارتباط الوقت بعنصر الحركة لطالما ظهرت في أعمال الفنانين المستقبليين، كنتيجة لاكتشاف العلم ما يسمى بأجزاء الحركة التي عززها تطور تقنيات الصورة الضوئية، غير أن الالتواءات التي ترتسم على الوجوه والأجساد في موضوع راكبي الدراجات النارية، تبدو صادرة من قريحة الفنان وارتجالات ريشته في إضفاء لفحات اللون بما يشبه الزيغ والارتياب، بحثاً عن الإيحاء بفكرة السرعة التي تسابق الريح، ما بين مداهمة الموت وخطر المجهول في مكامن الطرق ومفاجآتها. في جديده التشكيلي يسلط حسن جوني الضوء على ظاهرة من ظواهر المجتمع اللبناني تحولت آفة اجتماعية فاقعة، هي على حافةٍ بين تحديات الفقر والحرمان، والعصيان والتمرد على مبادئ السلامة العامة، حين يعرض لنا الفنان «راكب الدراجة النارية» وخلفه عائلته المكونة من زوجته وأطفاله في صورة قد لا تبدو كاريكاتورية أو مبالغاً فيها، بمقدار ما هي صورة انتقادية ساخرة تثير الشفقة. هكذا يتحول الفراغ المحيط بكائناته إلى معنى دالٍ على الخواء والتقهقر الاجتماعي والإنساني، في بحثه عن جيولوجيا الإنسان المعاصر، بين ركام الأشياء المتداعية والأسى المكتوم في نظرات العيون الحزينة. إن الانزياحات الموجودة في هيكلية الأبنية، تتراءى كذلك في بنية الكتل الإنسانية حين تجتمع أو تتفرق على غير هدى، كي تشير إلى مدى التخبّط والقلق وضيق العيش، حين لا يعود الفضاء متنفساً وحين تضل الخطى وتضيع الأرجل في متاهات الأرض التي تنسحب. على رغم ذلك نجد خط الأرض حاضراً حين يكون الأمام من اللوحة مهماً للشخصيات و «الموتيفات» التي تتقدم بأسلوب استعراضي مسرحي، في مشاهد توحي إما بالعزلة أو بالرحيل، لكأن المرأة هي ملاذ الرجل، حين تضمهما الطبيعة بين قمر الليل وحوريات البحر، وقد يغيب خط الأرض في تكاوين تعوّل الأهمية على الخلفية من الصورة في تسلسل المنظور الذي يسعى إلى توزيع الأشكال والألوان بين جنبات اللوحة حتى أعماقها. وأحياناً يتجه التأليف في حركة حلزونية، في نموها المتصاعد من الأسفل إلى الأعلى تنبري الجموع الإنسانية في تلافيف سحابات لا تلبث أن تتلاشى في الفضاء. حين يفتش حسن جوني عن الحقائق الكبرى يجدها في الشارع بل في منعطفات الحياة اليومية، داخل الأزقة والأحياء الفقيرة حيث الشرفات معلقة بحبال النسيان على جدران الأبنية المترنحة تحت وطأة الحرمان، وحين ينسحب من الناس فهو يتركهم لمصائرهم كي ينصرف إلى صبوته في أحضان الطبيعة يستحضرها تجريداً لونياً بين العواصف والرعود وانبلاج الصباح، أو يتخيلها قرى وادعة تغمرها ألوان الورود وتحيطها البساتين كسوار في الزند.