(إلى جورج يمّين) "المدى المفقود/ نظرة كتّاب وفنّانين لبنانيين إلى الطبيعة" عنوان كتاب جديد صدر مؤخّراً في لبنان بمناسبة الذكرى السنوية للشاعر اللبناني الراحل جورج يمّين. والكتاب الذي يتزامن صدوره مع تظاهرة "بيروت عاصمة عالمية للكتاب" يحتوي على شهادات ومقالات تتمحور حول الطبيعة اللبنانية "حبّاً بها وخوفاً عليها"، كما جاء في التقديم. المشاركون في الكتاب: إتيل عدنان، أسعد جوان، أنطوان الدويهي، أنطوان كرباج، بدوي أبو ديب، بهيج حجيج، جرمانوس جرمانوس، جلال خوري، جورج خبّاز، جوزف الحاج (الذي يشارك أيضاً بمجموعة صور فوتوغرافيّة متميّزة بحساسيتها الفنيّة العالية)، حسن داوود، رهيف فيّاض، طلال سلمان، فيفي كلاّب، فيليب سكاف، كلوديا مرشليان، مارون حكيم، محمد علي فرحات، نداء أبو مراد، وديع سعادة، وعيسى مخلوف الذي ننشر، في ما يأتي، كلمته في الطبيعة وأثرها في الإبداع. I المكان الأوّل الذي أوتي للعين أن تراه هو، بمعنى ما، المكان السابق لكلّ الأمكنة. لم أعرف حين سافرتُ للمرّة الأولى أنّ رحلتي ستكون طويلة إلى هذا الحدّ وأنّ المسافة بين الإقامة والوعد بالعودة تضؤل بقدر ما تتّسع المسافة بين القارّات. لكن ثمة مشاهد تستقرّ في عيوننا وترافقنا، كأنما ولدت معنا. نحملها في ترحالنا كرفّة جفن، كرسائل نفتحها متى نشاء. نفد إليها كأننا نصعد إلى الفجر. من الطبيعة المرئية إلى الطبيعة العميقة للأشياء، هناك نافذة مفتوحة على الأسرار. لا تنبع أهمية الطبيعة في إهدن، بالنسبة إليّ، من حنين إلى المكان الأوّل، حاضن الطفولة والأحلام، بقدر ما تنبع من جمالها الخاصّ وكذلك من موقعها ضمن دورة قاديشا والذي يجعل منها أحد الأمكنة الآسرة في العالم. تتراءى لي إهدن بصفتها حديقة معلَّقة. يكبر هذا الإحساس إذا ما تسلّقنا جبل الشربين صعوداً نحو "باب الهوا"، ذاك الشقّ الصخري الذي تخترقه الشمس في شهرَي تموز وآب، وتعبره قوافل الضباب في أواخر شهر أيلول. من تلك النقطة المركزية في الجبل، في اتجاه الزاوية التي تعلو نبع مار سركيس، تطالعنا إهدن وحولها الجبال والوديان وأمامها البحر. غالباً ما تراودني ذكرى نزهة قمت به وأنا في السابعة من عمري بين بيتنا وبيت أنطوان مرقص الذي كان صديقاً لوالدي. اجتزتُ يومها درباً ضيقاً بين بساتين التفاح والإجّاص وقد أحاط به من الجانبين العلَّيق وكذلك التوت البرّي، وكانت حباته القرمزية تلمع تحت نور الصباح. اشتهيتُ الاقتراب منها وقطفتُ ما حلا لي متحمّلاً وخزَ الأشواك. تخطر في بالي هذه النزهة البعيدة كأنني رأيتها في حلم، وتمنحني إحساساً نادراً بالعذوبة والراحة. تحضرني بقوّة شمس ذاك اليوم وألوانها المتلألئة المتناثرة في الهواء. وغالباً ما أستحضر تلك الألوان عندما يعصى عليّ النوم فأحاول استدراجه بها. من هنا بدأت علاقتي بالمكان الذي أنظر إليه الآن بالدهشة الأولى دائماً. أقرأ في الصفحة 82 من كتاب "عين السراب" هذا المقطع: "جروح الظلام المتلألئة تنزّ نزّاً. تهطل في اتجاه المقلب الآخر من الفضاء، ولا تصلنا منها إلاّ رعشتها. في هذا الفضاء المكتمل، المدهش والمثير، في هذا الملعب الفسيح، يعبر النيزك عبور المهرّج. لا بداية للنيزك ولا نهاية. كأنه هنا فقط ليمهر توقيعه في قبّة السماء. ليطلق ضحكته العالية. "ليقول إنّ الحربَ مُرضِعَةُ العالم". التأمّل في هذه الطبيعة وقراءتها كانا بالنسبة إليّ بداية التمعّن في الطبيعة في كلّ الأمكنة التي عشتُ فيها أو زرتها لاحقاً. يتجاور جمال الأمكنة في ما وراء الأمكنة. من منطقة كانايما الفنزويلّية البعيدة وغاباتها وشلالاتها وطيورها الملوّنة وصيفها الأبدي، إلى بعض جزر الكاريبي التي يستعصي على السيّاح الوصول إليها، وحيث الماء اللازوردي يتغلغل في الرمال البيضاء ويسرّ إليها بأسراره منذ ملايين السنين فيما زرقة السماء تراقب هذه الحركة الأبدية وتندرج فيها. ومن ليل الصحراء ونجومه إلى "جنّة العريف" في غرناطة وحديقة "باغاتيل" في غابة بولونيا في باريس، وكلّها، هنا وهناك، كأنها تتّصل فيما بينها بخيط الماء الحيّ الواحد. II كان تأمّلي في الطبيعة أيضاً بدايةَ الاهتمام بجمال الأرض وبما يهدّد هذه الأرض (تلوّث، احتباس حراري، جفاف، تصحّر، انقضاض على الغابات والبيئة والمحيط الحيويّ العامّ...) وبالمسؤولية الملقاة على البشر. كان بداية التساؤلات حول علاقة الإنسان بالإنسان، وعلاقته بالحيوان وباقي الأجناس الحية بما فيها النبات والجماد. وكذلك علاقة بعض الحضارات القديمة بالطبيعة ومنها، على سبيل المثال، حضارات المايا والإنكا والأزتيك قبل وصول كولومبس إليها. وفي ما وراء الإبادة التي لحقت بشعوبها، لا يزال صوتها حيّاً حتى هذه اللحظة. نسمعه يقول: "إنّ كلّ صنوبرة ملتمعة، كلّ ضفّة رمليّة، كلّ سحابة في الغابات المظلمة، كلّ فُرجَة مضاءة وكلّ طنين حشرة، كلّها جميعاً مقدّس في ذاكرة شعبي وتجربته... عندما يتوارى آخر إنسان أحمر عن هذه الأرض، يستمرّ ذكرُه ظلاً كما ظلّ غيمة فوق الحقول. وسوف تبقى الضفاف والغابات مسكونة بأرواح شعبي، لأنّنا نحبّ هذه البلاد مثلما الطفل الرضيع يحبّ دقّات قلب أمّه". لا يتوقّف اهتمامي بالطبيعة عند حدودها الواقعيّة، وإنما يطال أيضاً أثر الطبيعة في الإبداع، لا سيّما في الآداب والموسيقى والفنون التشكيلية. الطبيعة التي تحضر في الفنون هي غصن آخر من أغصان الواقع. الفنانون لا يرسمون الطبيعة بقدر ما يسائلونها ويستنطقونها وينقلون بعض ما ينشأ في أنفسهم عن تلك العلاقة. من المنمنمات العربية والفارسية إلى الأزهار المؤسلَبة في صحون إزنيك التركية، ومن جيوتّو الذي زاوج بين مشهد الجبال والمشهد الذي يمثّل الهندسة المعمارية إلى ليوناردو دافنشي والطبيعة الساهية في خلفية بعض أعماله، يلفح أشجارها وصخورها نور من خارج المكان والزمان، ومن وليام تيرنر وطبيعته المجرّدة إلى بول سيزان وجبل سانت فيكتوار في الجنوب الفرنسي فبيار بونار الذي رأى البحر المتوسّط داخل حوض ماء تستحم فيه امرأة عارية. من هؤلاء الفنانين إلى شفيق عبود الذي عانق الجهة الأخرى للمتوسط، وصليبا الدويهي الذي غمس ريشته في منطقة قاديشا ووادي قنوبين... إنه احتفاء الفن بالطبيعة، وملامسة السرّ الذي يمكن أن يؤنسن العالم. هذا الإصغاء العميق مَعبَر لتأمّل قد يساعدنا على الاقتراب من الهوية الإنسانية التي تبطل معها الحدود بين الثقافات واللغات والأديان والأجناس المختلفة. III لا يغيب يوم ولا أفكّر في الوجه الذي يشبه شغفَ الشروق، ذهَبَ البدايات. الوجه الذي نبحث عنه في كلّ الوجوه. الوجوه التي غابت وبقيت في لحظة جمالها الأول. من فندق "لاميري" الذي يتكئ على جبل الشربين، إلى الأودية المنطوية على أسرارها، وصولاً إلى البحر، يتسع عمقُ المدى ويبلغ حدوده القصوى في عذوبة الليل العالي وقناديله السماوية، ويتخذ البصر، في ذروة افتتانه وذهوله، ذاك الإحساس الذي دفع الشاعرة اليونانية سافو، منذ قرابة 2700 سنة، إلى القول إنها ترغب في أن تعانق السماء بذراعيها. إنها الرغبة في تجاوز الشرط الإنساني المحدود، وبلوغ ما يتعذّر بلوغه، بعيداً عن رتابة العيش اليومي الذي يشبه الموت. بعض الأمكنة يمكن أن يصبح، في لحظة شديدة الخصوصيّة، شرفة مفتوحة على الكون اللانهائي. يصبح مرايا الألغاز حين يتّخذ كلّ كوكب موقعه، في الوقت المناسب، وتضؤل المسافات بين المجرّات. هنا تفتح الطبيعة الغاوية كتابها. القمر، أول طلوعه، هو الصخرة الأعلى من الجبل العالي. صخرته المتحرّكة. حارس الهندسة الأولى، يعيد المشهد إلى لحظته البدائية ويمحو ما قد تتعثّر به العين من عشوائية الإسمنت والصلب. الشجرة هي الألِف، أوّل المشهد، مطلع النشيد، مرآة الفصول الأربعة. إنها هِبة ضوء القمر الذي يهطل علينا بصمت. ما ترويه شجرة الحور في إهدن بعد منتصف الليل يختلف عما ترويه في الصباح، عند الظهيرة أو في المساء. ما تقوله الشجرة لا تتسع له لغة البشر. وهذا ما يدفعنا إلى مزيد من الإصغاء. نصغي إلى الهواء الذي يتداخل في أوراقها ويتمايل معها، وإلى هسيس الحشرات غير المنظورة، وصوت الماء الشفيف يترقرق فوق أحلامنا الصاحية، كأنها كمنجات الليل أو هي دقّات قلبه. في رهبة الجبال العظيمة التكوين، المنتصبة كمنحوتات قديمة هائلة، يرفّ جناح. يطير فوق تدرجات الألوان الحمراء والصفراء والبنفسجية، يرشدنا إلى وهجها الأول والأخير. اليد ذاتها، تمتدّ نحونا كشعاع يصافحنا. في حنوّ تلك اليد، في تناغمها وجمالها، نقرأ ما فاتنا وما سيفوتنا من وقت. وقتنا هو، ولا نستطيع الإمساك به! حياتنا هي ولا نستطيع امتلاكها! تراقبنا تلك الجبال وترأف بنا كما رأف الله بآدم حين طرده من الجنة، ومنحه، لكي يؤاسيه، قبضة بخور، لحظة العطر الأولى. كلّ شيء يهدأ دفعة واحدة، حين تستعدّ زرقة الليل الكثيف للبوح بكلمة السرّ: نجمة صبحها التي تشبه بيضة طائر خرافي تتكسّر فجأة أمام العين الساهرة، فتخرج منها تلك الماسة الباهرة المدهشة التي لا تلبث أن تغيب. يدعونا الجمال الذي في المشهد، حين نتحسّسه بكياننا، إلى تصعيد قدَرنا والارتقاء به والابتعاد عما يشدّ في اتجاه النوازع السفلى. وحين نمعن في النظر ندرك أنّ ما نراه ليس إلاّ جزءاً مما تمكن رؤيته. الخوف على الجمال هو، على نحو ما، خوف من خسارة الجوهر الإنساني.