إلى أين يمضي الفنان شارل خوري بكائناته وشخوصه، وإلى أين يسرح بأفكاره وخياله، حتى خرج بألعابه ومتاهاته من سطح اللوحة إلى معلقات الحائط ثم إلى الفضاء الثلاثي البعد؟ قد نجد الإجابة في أوسع احتمالاتها في المعرض الذي يقيمه في غاليري جانين ربيز (الروشة- حتى 28 الجاري)، متضمناً 20 لوحة (قماش خيش وألوان أكريليك) وقطعة نحتية ملونة ومجموعة من الأقنعة الخشبية المطلية باللون الأسود معلقة على حائط تذكاري يعيد إلى الأذهان ملامح من فنون الحضارات البدائية بطقوسها الطوطمية وطلاسمها، لاسيما الفن الزنجي ذي الطابع الهندسي. الخروج إلى الفضاء قد يكون عنواناً للتجارب الجديدة التي عمل عليها الفنان، بعدما كانت تشكيلاته الكتلوية متراصة وقاتمة تسودها غرائبية الحشرات والمخلوقات والزواحف الطريفة، لتظهر أمام شاشة اللوحة بل إلى فضائها الرمادي نماذج اقرب ما تكون إلى شخوص مقنّعة بالريش والألوان، لكأنها رؤوس طيور، وهي متخفية رغم علانية ظهورها، بشتى الانفعالات والحركات والتموضعات التي تومئ بأن ثمة تجمعات إنسانية في حال حوار، وربما في حراك مبهم متعدد الوجهات. نستطيع أن نتبين الأيدي بأصابعها الضخمة وتلافيف الأذرع المتشابكة الأغصان، ما هي إلا تشكيلات عضوية ذات لونية ساطعة في تعارضها وسخية في انسجاماتها، أو هي تكاوين نابعة من رؤية غير محددة لعالم ينبثق من جراء تجاور السطوح اللونية. فالموتيفات تخرج من ذاكرة العين بسهولة ارتجالية، غير أن تكرارها على مر الوقت، جعلها تبدو كمعادلات بنائية رست على قوانينها وتوازناتها حتى أضحت بمثابة أشياء أليفة. ليس سهلاً أن يصنع الفنان من اللاشيء لغة متحركة وحيوية ودينامية إلى هذا الحد، ولكن الاستمرار فيها يحتاج أيضاً إلى تأويلات وإلهامات ومحفزات جديدة. يستحضر شارل خوري هواجس التلوين المسحور بالإشارات التي تسكن الأجساد ذات الأشكال الطلسمية، برغبة من يريد تخليص الرسم من شوائب التكوين الجامد، كما لو أنه في نزهة يقتفي الأثر كي يوضح علاماته ويتبع مساراته ثم يسلّمها إلى الغياب، لفرط حضور الإشارات البراقة في توحشها والمساحات المتراصة على خشونتها كي تظل رهينة حقول الجسد الطوطمي. هكذا نجد أنفسنا مدفوعين بفعل النداءات اللونية الصارخة إلى النظر داخل الكتلة وخارجها، لنكتشف تواشجها وتلاحمها وانصهاراتها وايهاماتها المجردة، المتأتية من بساطة المواد وتقشفها وصناعتها اليدوية، في دروب تتشابك كي تصل إلى حلتها الزخرفية. وهي إذ تصل إلى العين بفِتنتها الهجينة عارية مجردة بلا مساءلة، بل بحب مقطوف من رؤية ما بعد الرؤية، أي من ثوابت الماضي والحاضر ومن اللاشيء، الذي يتخلى عن مكنوناته كي يوضح الرغبات اللونية الدفينة. كل ذلك يقول إن الفنان وصل إلى لغة شكلانية Formelle موصوفة بالنضج المغموس بالشغف وحب المهنة. شارل خوري ملوّن بامتياز، قادر على إظهار جمالية التناغمات والتضادات في توليف ينحو إلى تصوير شخوص تقف داخل فراغ دواخلها، في حجرة خالية إلا من الرمادي، لكأنها بورتريهات معاصرة لشخصيات مقنّعة بغموضها، لا ندري لماذا يخامرنا الشعور بأننا داخل الخلو الوجودي، الذي أمضى داخله الفنان الانكليزي فرنسيس بيكون يختبر فيه تشوهات الوجوه المرعبة في التواءاتها وجنوحها. قد لا ينتاب شارل خوري هذا الرعب من الفراغ لفرط ما هو تفاؤلي ومرح ومرن وقادر على زخرفة دروبه بحرية تلوينية وإحساس طفولي يشع بغنائية شعرية آتية من سحر البراري وكذلك من رتابة الحياة اليومية. وهو يجمع بين الصخب والهمس، وبين النهج الحركي الانفعالي المتقد والصرامة البنيوية، التي تتمثل بالخطوط والمربعات والمستطيلات والمثلثات ذات الرؤوس الناتئة، التي تحوّل الأشكال إلى «عربسة» Arabesque لسجادة ملتحمة بعناصرها وألوانها وتفاصيل معالمها المتخفية. لم يعلن شارل خوري العصيان الكلي على ماضيه التشكيلي ولا عن تعلقه بمنجزات فن الكوبرا (جورن وآبل وكونستان... وسواهم)، لا سيما لجهة الأقنعة والمنحوتات الخشبية المبتكرة بذاكرة ذكية وطرافة ودعابة محببة، أصبحت لصيقة فنه. لكنه يقف على مشارف مرحلة يستجمع فيها مفرداته التشكيلية ليعيد توزيعها في فضاء جديد ذي علاقات واسعة المدى، متصلة بسينوغرافية مكانية وأرضية ثابتة، وأحياناً في فضاء مستقل. وفي جميع الأحوال تبدو الموتيفات مصممة بمنتهى الدقة والإحكام والتركيب، ولئن ظهرت خشبياته الملونة بمظهر الدمى أو «الأرلوكان» المعاصر، ولكنها تبدو مرتعاً لأحلام الذاكرة الطفولية التي شكلت منطلقات شارل خوري، وظلت منبعاً لعطاءاته.