يشكّل التاريخ أرضيّة عند الروائيّ الكرديّ جان دوست في روايته المترجمة الى العربيسة «ميرنامه – الشاعر والأمير»، (هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، كلمة، 2011، مراجعة وتحرير كاميران حوج). يحتلّ التاريخ دور البطولة، يقدّمه الروائيّ في ثنايا روايته محفوفاً بالشخصيّات والوقائع، ومغلّفاً بالإسقاطات الكثيرة التي ينفتح عليها. يحاول الكاتب أن يقدّم سيرة روائيّة لشخصيّة الشاعر الكرديّ أحمد خاني (1651- 1707) صاحب ملحمة «مم وزين» الشعريّة الذائعة الصيت؛ الملحمة التي تشكّل بحدّ ذاتها مثار فخر وولع واهتمام متجدّد، وغدت شخصيّات تلك الملحمة حيّة على مدار الزمن، يتمّ اللجوء إليها في الذاكرة والتاريخ، للاستدلال على عَظَمة فعل أو دناءته، عبر التشبيه بإحدى الشخصيّات في معرض التدليل وموطن الشاهد، وملحمة «مم وزين» تسرد قصّة عاشقين في سياق ظروف تاريخيّة وصراعات لا تنتهي، وبخاصّة صراعات الأخوّة التي تودي بالجميع. تدور أحداث الرواية في أماكن متعدّدة من الإمبراطورية العثمانية في القرن السابع عشر، وبخاصة بلدة «بايزيد» على الحدود بين الإمبراطوريتين، الصفوية والعثمانية. يصوّر الكاتب فيها، سيرة حياة شاعر ومتصوّف كرديّ ناهض الظلم بقلمه، وهو أحمد خاني. يبتعث جان دوست شخصيّة أحمد خاني من عمق التاريخ المعتَّم عليه، ليدوّن سيرته بطريقة روائيّة، يقدّمه في إطاره التاريخيّ، وسياق الظروف المحيطة به، والتي كان لها بالغ الأثر في تسميم روحه وحياته، يبتدئ بمشهد التشييع الاستثنائيّ، حيث ينهمر مطر شديد الغزارة، ويكون بلون الحبر ورائحته، يكون بشيراً ونذيراً في الوقت نفسه، فيبدأ الناس بالحديث عن كرامات الشيخ خاني باعتباره واحداً من الأولياء وعن شخصيّته وإعجازاته، إذ تُحاك حوله الأساطير وتُنسَج الغرائب، فيقال إنّ كفنه لم يتبلّل بالمطر، وإنّ وزنه في التابوت كان خفيفاً بحيث يكاد لا يذكر. ومن هناك تنطلق الأحاديث، وتتوالى الفصول، لتقدّم سيرة الشيخ خاني من جانب مشيّعيه وأشياعه وأعدائه، بحيث يرسم الروائيّ صورة متعدّدة الأبعاد، ومن مختلف الجوانب، لشخصيّة بطله المؤسطَر في التاريخ الكرديّ. ينقل الروائيّ السرد من راوٍ إلى آخر، بحيث يبلغ عدد الرواة أكثر من 15 راوياً، يتقدّمون بداية بالتعريف عن أنفسهم، ويقدّمون أوراق اعتمادهم مراسيلَ إلى الشيخ خاني والقرّاء، يسردون حكاياتهم المستقلّة والمتداخلة مع الشيخ، وبعض المواقف التي جمعت في ما بينهم وبين الشيخ، بحيث يطّلع القارئ على شخصيّة خاني من جانب أنصاره وأعدائه على السواء، ويكون الكلّ مُجمعاً على فرادته وعبقريّته وتفانيه في سبيل خدمة أهله وقومه. يتقدّم موكب الرواة تيمور الفاسق، الذي يروي شغفه بالشيخ خاني، ومدى استيعاب الشيخ له، واطمئنانه في حجرته، ثمّ يروي حكايته البائسة ونعته بلقب الفاسق، ثمّ الظلم الذي لحق به وبأمّه، وما دفعه للهروب إلى مستنقع السُّكْر الذي كان وسيلته للسهو عن بؤس العالم وظلمه، ثمّ يأتي دور عمر الخزندار الذي تدور به الدوائر، ويتعرّض لأبشع أنواع الظلم والقهر على أيدي الأمراء، ويقع ضحيّة عمله كخزندار للأمير، ويفقد عينيه إثر جشع أعمى من أمير متسلّط جائر، ليعيش بعدها حافظاً للقرآن محفّظاً إيّاه للأطفال، وذلك بعد أن مارس الغناء فترة في مجلس أحد الأمراء. ثمّ يأتي دور الفتاة العاشقة المعشوقة شَنكي، وهي التي تحتلّ قلب الشيخ وروحه، يزوّجها والدها الطمّاع إلى أحد التجّار الأثرياء، ثمّ يبيعها من زوجٍ إلى آخر مستصغراً شأن الشيخ خاني وسوء أوضاعه المادّيّة، تكون شَنكي ضحيّة الجشع كغيرها من الفتيات، لكنّ ما يميّزها أنّها تظلّ حسرة في قلب خاني، ينشد فيها أروع قصائده، يتصوّف في عشقه، يسرّب عشقه إلى شخصيّات ملحمته الشعريّة، لتكون «زين»؛ بطلة ملحمته صورةً منشودة لشنكي، ووجهاً من وجوه الحبّ المستحيل. يأتي بعدها دور الحاج زهدي التاجر ليبوح بجوانب من سيرته، وبمواقف جمعته بالشيخ خاني، وموقفه منه، ثمّ يليه الشاعر بُهاري الذي يمثّل نوعاً من الصداقة اللدودة، وبعده مُلّا فريد، وميرزا صبري، والمغنّي دوستو الأرمويّ، ورجب الخيّاط وخالد المخَدج والصوفي حيدر القرْصي، وكذلك الطبيب المسيحيّ، وملّا صالح الجزريّ وصلاح الدين الورّاق وسليم النعّال وبنكين الحاجب وشمسو القَوّال والملاّ إسماعيل البايزيديّ والملثّم ثمّ الأمير. يمثّل كلّ فصل، حلقة متّصلة منفصلة في سياق الرواية والتاريخ المُتجاهَل، بحيث يكون الفضاء الروائيّ منفتحاً على أزمنة مختلفة وأمكنة كثيرة، يستحضر الروائيّ عبرها قصصاً وأساطير من التراث والتاريخ، يجري نوعاً من المقارنة بين الأمس واليوم، بحيث يحلّل أسباب انهيار الإمارات، وبقاء الكرد رهائن بين الترك والفرس، ووقوداً لنيرانهم، حيث إنّ الموقع المتاخم للإمبراطوريّتين كان يضعهم في مواجهة دائمة مع طرفين قويّين متناحرين، تكون أرضهم ميداناً للمعارك، ويكونون هم قرابين الحروب والتسويات التي تتمّ متاجرة بدمائهم. يبحث جان دوست في قلب التاريخ عن العبَر، يثير الكثير من الأسئلة والتشكيكات بالتاريخ المدوّن، يقدّم شخصيّة بطله التاريخيّ أحمد خاني شهيد الحبّ والغدر والخيانة والفداء، ذلك أنّ فكرة تسميم الشيخ التي تنتقل من فصل إلى آخر، وتخمين القارئ والشخصيّات أنّ الشيخ مسمّم من جانب الأمير ما هو إلّا تذكير واجب بالتناحر وتأليب الأعداء على الأهل وبني الجلدة، ذاك الأمير الذي سطا على العرش بالرشى والقوّة والغدر، من دون أن يكون وريثاً شرعيّاً أو مستحقّاً، وعدم اهتمامه بأهل العلم، ولا إصغائه لنداءات الشيخ خاني في تقدير العلم والعلماء، في سبيل إعلاء اسم الإمارة، والإعلاء من شأن أهلها، يظلّ رمزاً للقوّة الغاشمة الجاهلة. التسميم الذي يرد الحديث عنه في معظم الفصول، لا يكون تسميماً مباشراً، بل يكون تسميم الروح والفكر، بحيث يؤدّي إلى تشويه القيم وتشوّه البشر، من صور التسميم مثلاً، تهميش العلماء والحطّ من شأنهم والنظر إليهم على أنّهم عالّة في الإمارة وعليها، وكذلك إعزاز الذليل ليشعر العزيز باغترابه في واقعه، ويبحث عن وسائل حرباويّة للتلوّن أو التهرّب والابتعاد، ثمّ تصوير لقطات من عبوديّة المال الذي يتنصّب سلطاناً لكلّ الأزمنة، وسيّداً للشرور والمآثم وباعثاً عليها. يؤكّد الشيخ خاني أكثر من مرّة في الرواية أنّه مسمّم بالتاريخ الذي لم يرحم فيه الكرد أنفسهم، وظلّوا رهائن رغبات الآخرين ورهن تعليماتهم وإشاراتهم. يقدّم جان دوست جوانب من حوار الأديان والحضارات، فحجرة الشيخ خاني كانت همزة وصل بين الأديان، وشخصيّته كانت محلّ إجماع وتوافق كعالم وشاعر، بحيث تكون رؤاه جسراً يوصل ولا يفصل، ومن تجلّيات ذلك في الرواية، تداوي الشيخ على يدي الطبيب المسيحيّ، واستماتة الطبيب في سبيل إنقاذه، ومدى التقدير الذي يكنّه له، وكذلك خروج اليزيديّ في جنازة الشيخ، وذلك مع تقديم بعض الصور البائسة من جانب المتشدّدين الذين يحجّرون العلاقات ويفكّكون المجتمعات بتصرّفاتهم الرعناء وسلوكيّاتهم البليدة. يصوّر الكاتب النكسات التي تعرّضت لها السلطنة العثمانيّة على أبواب فيينا، والتبلبل الذي اكتسح صفوف الجيش العثمانيّ الذي كان يتحايل على البسطاء بفكرة الجهاد، ويغريهم بالغنائم الموعودة، كما يصوّر تواطؤ بعض رجال الدين مع السلطات الحاكمة في سبيل تأبيد حكمها وتأمين الولاء المطلق لها. يضمّن الكاتب روايته كثيراً من الأساطير الكرديّة، ويتحدّث في المتن عن كثير من الشخصيّات الفاعلة والمؤثّرة في التاريخ الكرديّ، يقدّمها على منصّة النقد التاريخيّ بعيداً من التقديس، ولا يخلو تقديمه لها أحياناً من استجرار للوقائع التاريخيّة والحكم عليها بمنظار الراهن، بحيث تختلط الأمور وتتشظّى الرؤى، ويخرج القارئ بانطباع مختلف قد يكون صادماً في بعض الأحيان، كتفسيره للعلاقة بين الشاعر أحمد الجزريّ والأمير شرف الدين. لا يفتأ الروائيّ يكرّر على لسان بطله خاني أنّ الكرد مُبتلون بأمراء يفضّلون مصالحهم الشخصيّة على مصالح قومهم، وأنّه مسمّم بالرزايا التاريخيّة. والرسالة التي تكون محور الاهتمام، والتي تظلّ لغزاً غير منكشف حتّى الفصل الأخير، يتسلّمها الأمير، لكنّه لا يعيرها أيّ انتباه، ولا يكترث لمضمونها، يلقي بها في بحر التناسي، ويمارس نشاطه المعهود. وذلك يحمل دلالة كبرى عبر تسخيف الوصايا التي يجود بها عالم نحرير في حضرة حاكم جائر جاهل. يؤكّد دوست أنّ خاني كان أعظم المجاهدين، لأنّه ينطق بكلمة الحقّ في وجوه الجائرين، وتظلّ رسالته غير المقروءة بإمعان وتدقيق نهجاً لقرّائه والمعتبرين من التاريخ وحوادثه. جان دوست روائيّ ومترجم كرديّ، مواليد 1965 كوباني – سورية، يقيم في ألمانيا منذ 2000، له روايات بالكرديّة: «مدينة الضباب»، دياربكر، 2003، «ثلاث خطوات إلى حبل المشنقة» اسطنبول، 2007. وعمله «ميرنامه الشاعر والأمير»، هو العمل الروائيّ الأوّل الذي يترجَم له إلى العربيّة.