تعاني الرواية الكرديّة، شأن الكرديّ نفسه، الكثير من المصاعب، ذلك أنّها تنتعش تحت تأثير الآداب الأخرى، وتحاول تطوير تجربتها عبر التراكم. يبدو الروائيّ الكرديّ متأثّراً بالثقافة التي درسها، ذلك أنّه ظلّ ممنوعاً من الدراسة بلغته مدداً طويلة، فهناك المتأثّر بالعربيّة أو التركيّة أو الفارسيّة أو إحدى الثقافات الأوروبيّة، ثمّ تحضر الإيديولوجيا التي تلقي بظلالها على الرواية الكرديّة، تمارس عليها تقييداً من أكثر من جهة، تُوجِب عليها الالتزام بالقضايا القوميّة، فترى الروائيّ الكرديّ مهجوساً بهواجس وهموم مؤدلجة، اقتضتها الظروف التي يعانيها، الظروف نفسها التي خلقت أجواء غرائبيّة كابوسيّة مأسويّة، تشكل زخماً لا منتهياً للرواية؛ التي تنهل من التاريخ والواقع الغنيّين بالروايات والمفارقات سواء بسواء. كما يحتدم جدال واسع بين عدد من الكتّاب الكرد حول تبلور الرواية الكرديّة التي تعدّ من الفنون الحديثة التي طرق أبوابها الكتّاب الكرد... حيث هناك الكثير ممّن يحاولون التقدّم في المشهد الروائيّ، يبدو في مقدّمهم الروائيّ محمّد أوزون (1953 – 2007)، المولود في مدينة سيوريك التابعة لولاية أورفا في جنوب تركيا. تعرّض أوزون للسجن والاعتقال، وبعد التضييق عليه في تركيا هاجر إلى السويد، وأقام فيها، له عدد من الروايات منها: «أنت»، «موت شيخ طيّب»، «ظلّ العشق»، «رحيل رجل شجاع»، «بئر القدر»، «النور كالحبّ والعتمة كالموت»، «صرخة دجلة» في جزءين، «قوس قزح الروح». كما نال أوزون عدداً من الجوائز. يبتعث محمّد أوزون شخصيّات تاريخيّة، يتّخذها أبطالاً لرواياته، يحاول كتابة سيَرهم، باعتبارهم شخصيّات استثنائيّة ينبغي تخليدها، والتعرّف إليها، لا يحاول إضفاء القداسة عليهم، كما لا يسعى إلى تدنيسهم، بل يسرد من خلالهم وقائع مراحل بعينها. في روايته «ظلّ العشق» كتب سيرة المتنوّر الكرديّ ممدوح سليم باشا، كما كتب في رواية «بئر القدر» سيرة الأمير العالم جلادت بدرخان واضع الأبجدية الكرديّة اللاتينيّة، ثمّ في «يوم من أيّام عفدالي زينكي» روى سيرة المغنّي الأسطورة؛ عفدالي زينكي. يروي محمّد أوزون روايته «يوم من أيّام عفدالي زينكي» (عن دار الزمان، دمشق، 2010، ترجمة محمّد نور الحسيني)، على لسان مغنٍّ يجد نفسه مضطرّاً إلى كتابة حكاية شيخ المغنّين؛ عفدالي زينكي، الذي كان نديم الأمير طاهر خاني، المشهور بكرمه وعدله، حيث تكون الكتابة هي الملاذ الأخير للمغنّي الذي يستصعب الكلمة المكتوبة التي لم يتعامل معها، بل كان فارس الكلمة المسموعة المنطوقة، يجيد الحكايات بلسانه، لا بقلمه، يرضخ لطلب وإلحاح الأمير جلادت بدرخان وأخيه، فيكتب ما يعرفه عن عفدالي زينكي؛ الذي كانت شهرته قد طبقت الآفاق، وقصّته الغرائبيّة غدت على كلّ لسان. يحاول الراوي المغنّي، سرد حكاية عفدالي زينكي، في يوم واحد. يقسّم روايته إلى أربعة أقسام، يعنون كلّ قسم بوقت من أوقات اليوم، يبدأ من الفجر، يمرّ ببعد الظهيرة، ثمّ الليل، فالفجر مرّة أخرى، يكمل الدائرة الزمنيّة التي يبدأها بالفجر، يختلف الفجر الأوّل عن الأخير، تغدو لكلّ زمن دلالات يختصّ بها، فحيث يشير الفجر الأوّل إلى بداية الرواية واليوم المزمَع الحديث عنه معاً، فإنّ الفجر التالي يشير إلى الثورة المنشودة. وعلى رغم أنّ الكاتب يحدّد زمن روايته بيوم واحد من أيّام عفدال، إلاّ أنّه يحمّل راويه المغنّي الذي يصير كاتباً يدوّن مجريات حياة عفدال والمنطقة كلّها، عبر اختصارها في يوم واحد يستبطن عمراً بأكمله، أي أنّ تحديد الزمن بيوم واحد، لعبة روائيّة، في حين يكون المسرود متشعّباً متشظّياً إلى أزمان مختلفة، متباعدة، غنيّة بالأحداث والوقائع، متخلّلة الحديث الدائر في فلك اليوم المعروض. كما تكون أحداث كلّ فصل متوافقة مع التوقيت المختار، ففي حين يشتمل الفجر الأوّل على طزاجة البدايات وبراءتها، يتطوّر الأمر في الفصل الثاني؛ بعد الظهيرة، إلى تشابك وتداخل وتصعيد، ثمّ يكون الليل جلاّباً للعتمة من مختلف الجهات، حيث يصاب المغنّي عفدال بالعمى، ويقع رهين محبسيه المأسويّين، تتزامن مأساته الشخصيّة مع مأساة قومه، لأنّ الأمير العادل يتعرّض لغزو وغدر من العثمانيّين الذين يحتلّون دياره بتواطؤ من أبناء عمومته، وتحديداً الظالم عكيد الذي يُنصَّب أميراً، يعيث في البلاد فساداً وجوراً، يقتل، ينهب، يسلب من دون حدود. بعدها يكون الفجر الذي تنقشع فيه ديَم الظلم والعتمة، إذ يبرأ عفدال من عماه، يبصر النور، يتفاءل بالمستقبل، يحاول الاستشفاء بالأغاني والمواويل. يكون عفدال بطل الحكاية، تكون حكايته بؤرة الرواية، هو الذي يغنّي انتصارات قومه، يشدو بأروع الألحان والأغنيات، يتزوّج فتاة ذات صوت رائع، بعدما يستميت في تليين قلبها شهوراً بكلماته وألحانه، ثمّ يفلح في الزواج بها، يصحبها إلى دياره لتشاركه السمر في مجلس الأمير طاهر خاني، يتعرّض عفدال ذات يوم لوعكة صحّيّة، يتزامن ذلك مع نزول قافلة في البلدة، يرافق القافلة مغنٍّ، يستدعيه الأمير إلى مجلسه، يغنّي للأمير وصحبه، فيجد عفدال أنّ شيخ سلي سيأخذ مكانته، فيتمرّن في اليوم التالي، ويقوم بكثير من الترتيبات ليتحدّى غريمه بالغناء واللحن، يطلب من الأمير بدء النزال بالأغنيات، والصراع بالألحان، فكان أن دام الصراع، الذي لم يجد الناس له مثيلاً في الروعة، بضعة أيّام، أصيب على أثرها عفدال بالعمى، فقد بصره بعد معاناة مع المرض وتحدٍّ لطاقاته، استنزف قدراته ولم يتنازل للقبول بالحالة التي ألمّت به، عاند وكابر، فوقع ضحيّة غروره، انزوى بعدها في بيته، انطوى على نفسه، ورفض إلحاح الأمير بمعاودة الذهاب إلى مجلسه، ثمّ قرّر ترك البلدة إلى قرية نائية، ترافقه في رحلته زوجته وابنه وطفلان تبنّياهما، فتاة أرمنيّة كانت ناجية من المجازر التي ارتكبت بحقّ أهلها، وفتى آخر كان ابن أحد أصدقائه، حيث ظلّ في بيته بعدما توفّي والده الذي كان صديقاً مقرّباً لعفدال. يفتتح عفدال مدرسة لتعليم أصول الغناء واللحن، يحاول أن يُنشِئ جيلاً واعياً مسؤولاً، ينهض بمهمّة توعية مَن حوله والقادمين إليه بواجباتهم في المحافظة على إرثهم بالغناء، وتخليد بطولات أبطالهم بسرد ملاحمهم، ونشرها ليكرّرها الجميع، ويشدو بها المغنّون. يقول إنّ الأغاني كينونة وثروة. يكون صوته وسيلته الوحيدة في تحدّي الظلم والإجرام، يدافع به عن نفسه وقومه، به يعظّم الأبطال، ويقزّم السيّئين. يحاول أوزون طرح عدد من القضايا في روايته، يطرح جوانب من الاقتتال الدينيّ، يستعرض قضيّة المجازر التي ارتكبت بحقّ الأرمن في ظلّ السلطنة العثمانيّة، عبر استخدام عدد من الأمراء الأكراد التابعين للسلطنة، أولئك الذين كانوا مُضلّلين مخدوعين من أكثر من جهة، كما يطرح قضايا الأقليّات الدينيّة الموجودة بين الأكراد، كالأقلّيّة اليزيديّة، وذلك عبر شخصيّات مقدَّمة خلال مجريات الرواية التي تتنقّل أحداثها في أكثر من منطقة. يصف كيف أنّها تعرّضت للإفناء في سبيل محافظتها على أعرافها وتقاليدها في إجارة المستجير بها وحمايته من كلّ سوء. كما يحاول الكاتب إضفاء أبعاد فانتازيّة على روايته عبر إدخال الكركي الجريح الذي يفقد قدرته على الطيران، كأنّه صورة لعفدال الذي يفقد قدرته على البصر والغناء، ثمّ يتعافى مع تعافي عفدال، يحلّق بجناحيه حين يصدح عفدال بصوته، يكون قرينه الطائر، صورته المقلوبة المُمرآة أمامه. نجد أن الكاتب يذكّر بعدد من الملاحم الكرديّة، يرويها في محاولة منه للتذكير بقيمتها التاريخيّة الحضاريّة، يستحضر ملحمة ممي آلان، وسيابند وخجي، يُماهي في ما بينها وبين ملحمة بطله الضرير عفدالي زينكي الذي يغدو محطّ الأنظار، وموئل الحوار، من خلال تزوّجه بامرأة مسيحيّة، واحتضانه طفلة أرمنيّة وتبنّيها، ثمّ سعيه الحثيث لإصلاح ذات البين بين العشائر المتناحرة. كما نلاحظ أنّ الروائيّ يعيد التذكير بقيمة الجبل بالنسبة الى الكرديّ الذي يستحيل أن يتخّلى عن الجبل بأيّ شكل من الأشكال، فيكون الجبل ملاذه ومقتله في آن، يكون الجبل مشتملاً على التناقضات، فهو الذي يحتمي فيه اللصوص وقطّاع الطرق، كما أنّه يحضن الثوّار والعشّاق ويحميهم. والجبل المقدّم كرمز دالّ، يمارس معجزاته في النهاية، حين يقصد عفدال وأتباعه ذروة «سيباني خلاتي»، يشفى في تلك القمّة من أدوائه، يشدو بأروع ألحانه، يتعافى معه طائره الجريح، تلِد زوجة ابنه طفلها الذي يسمّيه عفدال باسم متبنّيه الذي يقتَل على يدي الظالم عكيد. يغدو الجبلُ الطبيبَ لكثير من العلل، وكأنّ لا شفاء من دون الحجّ إلى الجبال، والتبرّك بها. يقدّم أوزون تراجيديا إنسانيّة، أبطالها أناس كانوا على تخوم التاريخ يدوّنون أحداثه الجِسام، يؤرّخون لمرحلتهم بالغناء، يشدون بالمحبّة، ويصدحون بالتسامح. وعلى رغم وقوعه تحت ثقل الإيديولوجيا التي لم يفلح بالتخلّص منها، في رغبة جليّة منه، لتحميل روايته واجب التثوير والتنوير، إلاّ أنّه تمكّن من التعبير عن روح منطقته في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، عبر ابتعاث شخصيّة مُؤْسْطَرة، وتقويلها أطروحاته ورؤاه. يصرّ بذلك على أنّ الروايات كالأغاني كينونة حقيقيّة وثروة مهمّة وتاريخ فاعل.