يعد الروائي دافيد توسكانا (ولد في مونتيري في المكسيك عام 1961) من الاصوات الروائية الجديدة في أدب اميركا اللاتينية. هذا الأدب الذي كتب بالاسبانية، وجد طريقه إلى مختلف لغات العالم، وانتشر على نحو واسع. ويمكن القارئ العربي أن يعدد أسماء الكثير من رموزه من الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز الفائز بنوبل الآداب مطلع ثمانينات القرن الماضي، وصولاً إلى الفائز بالجائزة ذاتها عام 2010 البيروفي ماريو بارغاس يوسا، مروراً، بالطبع، ببورخيس، وجورجي أمادو، وايزابيل الليندي، وماريو بينيديتي، وكارلوس فوينتس، وخوليو كورتازار... وسواها من الاسماء التي وصل معظم نتاجها إلى القارئ العربي بفضل أحد أشهر المترجمين عن الاسبانية وهو صالح علماني. توسكانا هو وريث هذه الطائفة من الروائيين الذين نالوا حظاً واسعاً من الشهرة والانتشار. وهو في روايته «نوى» (واسمها الأصلي بالاسبانية «لونتاناثنا»)؛ المترجمة بتوقيع رفعت عطفة (دار الحوار، اللاذقية 2011)، لا يتنكر لهذه التجارب التي صاغت ذائقته الفنية. يقر توسكانا؛ صاحب «محطة تولا»، و «سيدة السيرك» بتأثير هؤلاء الكتّاب في تجربته، بل بمن هم أبعد، زمنياً، ممن أغنوا الأدب الاسباني وفي مقدمهم، روائياً على الأقل، سرفانتس. لكنه يحاول التحليق بعيداً عن اتجاهات رواية أميركا اللاتينية التي أُطرت تحت مسمى «الواقعية السحرية»، ساعياً الى السرد عبر أسلوب مغاير وصفه بعض النقاد ب «الواقعية الجامحة». هذا النزوع الواقعي المتخفف من إغراء المخيلة ومكرها دفعه إلى مراقبة ما يجري حوله بعينيه الفضوليتين ليحول مشاهداته اليومية المألوفة إلى نص أدبي مستمد مما سمعه ورآه. ولعله يكشف عن هذه التقنية السردية في إحدى الحكايات المدرجة في سياق هذه الرواية التي تتكون من مجموعة من اللوحات المنفصلة المتصلة، ذلك أن ثمة فضاء مكانياً واحداً يجمعها، وهو، هنا، حانة «لونتانانثا» الواقعة في إحدى البلدات المكسيكية النائية والمعزولة. بطل الحكاية التي تكشف عن حيلته السردية هذه، هو هيلدبراندو. أمضى عامين في العاصمة للدراسة على حساب أموال البلدية، بعدما كتب قصيدة مديح لأحد المسؤولين. عاد راضياً بشهادة ذهبية مؤطرة. وهو كان قد اكتسب شهرة لأن أشعاره كانت تُقرأ في كل احتفال وطني. واظب عامين على الدراسة تعلم خلالها الطريقة التي يستخدم فيها المجاز والكناية من دون افراط، وحفظ عن ظهر قلب العناصر والشروط التي يحتاجها النص كي يكون قصة قصيرة، بل وتعلم، أيضاً، كتابة السيناريو السينمائي والاذاعي. شعر الفتى بأن المدرسة قد منحته كل المهارات الضرورية لكتابة القصة، ومع ذلك لا تجيء الأفكار. لذلك كان أول ما فعله بعد عودته إلى بلدته هو أنه دخل إلى حانة «لونتانانثا» ليشغل طاولة في العمق مع لافتة تقول: كاتب مجاز، يبحث عن حكايات كي يكتب قصصاً. لن يسعفه أحد ممن التقى بهم بقصة مبتكرة، فتصوّر كتاباً بعنوان «لونتانانثا»، يروي مغامرات كاتب يدخل باراً، ويعلق لافتة بحثاً عن موضوع، وهذا ما يفعله توسكانا، إذ يرصد شخصيات المكان ويودع حكاياتها بين دفتي هذه الرواية. في حكاياته المروية، هنا، لا توجد شخصية رئيسة، فالبطل الروائي في هذه الرواية هم الجموع التي ترتاد الحانة عند المساء. موظفون وعمال محبطون، وأصحاب متاجر بائسة، وباعة، وطلبة، وشعراء محليون، وعشاق خائبون وعاطلون من العمل، فضلاً عن الشخصيتين اللتين تتكرران في الصفحات وهما اوديلون صاحب الحانة، ومساعده النادل «الاشقر»... خليط من البشر يقتلون الملل بالحديث عن الهموم والاوجاع، عن الأحلام والآمال والخيبات، عن تفاصيل الحياة الصغيرة، وعن مستقبل مجهول وسط رتابة يومياتهم... يصغي توسكانا، بشغف، إلى شذرات الحكايات المتناثرة في هذا الحيز المكاني الضيق الذي يغدو عالماً رحباً عبر ثرثرات لا تنتهي. يرقب الأحوال والظروف ثم يجتهد في سردها عبر أسلوب سهل وواضح، وهو يؤكد هذا المنحى في حوار له، إذ يقول: «عند الكتابة، ما هو مهم بالنسبة لي هو إبقاء العين مفتوحة على التجربة الملموسة للحياة». ورغم أن الكاتب لا يلمّح إلى انه يقصد إظهار حياة المعاناة والقسوة التي تعيشها شخصياته. لكن هذه الشخصيات تعبر عن نفسها، وتفصح عن أيامها التي تفتقر الى أي نوع من البهجة والفرح. هي شخصيات خبرت الفشل والخيبات طويلاً، من حكاية أمارو الذي سرّح، للتو، من العمل، إلى الكاتب المبتدئ، بائس الحظ، هيلدبراندو الذي عرف طرائق الكتابة وأساليبها. لكنه أخفق في العثور على قصة تستحق أن تروى، إلى روبن صاحب محل «الفرشاة الواسعة» لبيع الدهان الذي تدهورت تجارته المتواضعة بعد ظهور ماركات دهان منافسة، إلى ألبرتو البائس؛ الحالم ببطاقة يانصيب رابحة لن يحظى بها يوماً، إلى فكتور الذي عمل في المكتب ذاته 28 عاماً وها هو زميل جديد شاب يستعد ليحل مكانه في المكتب، إلى نادل الحانة الاشقر الذي يمقت عمله، ويحمر وجهه غيظاً حينما يدخل اصدقاء إلى المكان ويسخرون منه، إلى صاحب الحانة نفسه الذي ورث المحل عن والده، وهو يعمل فيه منذ عقود حتى أصبح «عجوزاً قصير الخطوات»، وعينه، دائماً، على الساعة تحسباً لمواعيد الدواء المكدسة في العلبة المعدنية التي لا تفارقه. هذه النماذج المهزومة هي التي تجتمع في الحانة «ذات الجدران الحجرية، حيث تحوم أسراب من البعوض والفراشات حول آرمتها المضاءة». تبوح بمكنونات النفس بنبرة شاكية حزينة، ويتبادل الاصدقاء رواية المواجع والأحلام التي لم تتحقق قط. والملاحظ أن هذه الجلسات التي ترسم صوراً ثرية عن مصائر سكان البلدة، تمنح المكان بعداً رمزياً. فالحانة في هذه الرواية لم تعد مجرد مساحة لتزجية الوقت، والهروب من رتابة المنزل، بل تشكل، بأجوائها ومناخاتها، فرصة للشكوى والاعتراف، وحافزاً لتقييم حصيلة العمر واستعادة الذكريات بلغة الحنين. ولا ينجو أحد من هذا الشوق إلى ذكريات ماضية حتى أولئك الذين هاجروا إلى المدن والبلاد البعيدة. في الصفحات الأخيرة من الرواية نتلمس هذه الرغبة لدى اميلكار الذي يدفعه الحنين للعودة إلى مسقط رأسه بعدما استقر لسنوات في الولاياتالمتحدة الأميركية. يعود إلى بلدته من دون أن ينسى أدق التفاصيل عن الطرقات والأزقة والأحياء، ويقود سيارته في الدروب الوعرة بمهارة العارف بالحفر والمنعطفات الطارئة. وإذ يصل، فإن المكان الأول الذي سيجذبه هو حانة «لونتانانثا»، العنوان الذي يجمع أهالي البلدة سواء بالنسبة الى من بقي فيها أو من غادرها نحو حياة أفضل، واسم الحانة، على أي حال، يحيل إلى النوى والبعد والحنين. لا تشغل توسكانا العناوين والقضايا الكبرى، وهو لا يأبه، كذلك، ببلاغة قد تثقل نصه، وتعيقه عن الاسترسال في القبض على حرارة الواقع وإيقاعه السلس المتدفق. إنه يسعى الى توثيق بساطة الحياة بكل صخبها وضجيجها، وتدوين مساراتها ومحطاتها وتحولاتها بأقل قدر من التكلف. وهو يلجأ في سبيل ذلك إلى حوارات موجزة ولماحة، وإلى وصف مقتضب، وإدراج القليل من سمات الشخصية، تلك التي تخدم رؤيته القصصية، وتفي بمغزى الحكاية... وإزاء هذا التقشف في الوصف والحوار، فإن ما يلفت الانتباه في هذا العمل هو روح السخرية والتهكم التي يتحلى بها الكاتب. ولا شك في ان الفكاهة والخفة تمنحان سرده جماليات خاصة.