بدت السياسة الروسية متخلِّفة عن اللحاق بتطورات «الربيع العربي»، بل ممانِعة له ومعارِضة، فلم تر فيه سوى مؤامرات اطلسية غربية، مع ان الممانعين من حلفاء روسيا وجدوا فيه في وقت من الاوقات ثورة على الهيمنة الاميركية. لم تكترث موسكو بثورة التونسيين رغم معرفتها العميقة بطبيعة نظام بن علي، وفي ليبيا مانعت حتى صدور قرار مجلس الامن الدولي رقم 1973 الذي فرض عقوبات وحظراً على نظام القذافي، وامتنعت عن التصويت على القرار لتعلن لاحقاً التزامها به من دون ان تتخلى عن ثقتها بصمود العقيد وتشكيكها بمعارضيه. قبل ذلك، وقفت موقفاً مشابهاً إزاء ثورة مصر، مع ان اسقاط نظام مبارك كان يفترض ان يشكل فرصة لا تقدر بثمن. واليوم تتخذ موسكو الموقف المتردد اياه تجاه الاوضاع في سورية، تتحدث عن ضرورة الإصلاح وتدعم الحل الامني الذي يمارسه النظام... فعلاً إنه فشل روسي ذريع ليس فقط تجاه منطقة عربية ربطتها تاريخياً علاقات عميقة مع الاتحاد السوفياتي وبعده روسيا، وإنما تجاه الموقع المفترض لروسيا في العالم اليوم. يوافق احد المتابعين عن كثب للشأن الروسي على هذه الانطباعات، ويأمل بتغيير ما في السياسة الخارجية الروسية تجاه المنطقة بعد تغييرات في الادارة التي تتولى العلاقة مع الدول العربية، إلا ان الامر لن يكون متيسراً بسهولة، فالأثقال التي تكبِّل موسكو كبيرة، بعضها من الماضي السوفياتي، وبعضها مصالح ضيقة، والبعض الآخر انعدام في الرؤية. تكرر موسكو في تعاملها مع الوضع السوري تجربتها مع ليبيا، وهي اذا كانت متأخرة أياماً وأسابيع في سماع صوت التحولات داخل «الجماهيرية» البائدة وخارجها، فإنها تبدو تجاه الاوضاع في سورية مرتبكة، في تمسكها الخشبي بسياسة النظام من دون ان تساهم في تقديم أي فكرة او مبادرة يمكن ان تساعد السوريين، نظاماً ومعارضة، على الخروج من الدوامة الراهنة. وتعكس صحف روسية جانباً من هذا الارتباك، كما تعكسه تصريحات المسؤولين الروس على مختلف المستويات، واذا كان الرئيس ميدفيديف «صعَّد» موقفه في لحظة غضب، محذِّراً الرئيس السوري من «مصير حزين»، فان محللين ساروا على منواله وآخرين تشبثوا بحذرهم، معبِّرين على نحو بارز عن مصالح الصناعة العسكرية الروسية وأحلام ورثة الطموحات الإمبراطورية السوفياتية. ففي روسيا من يقول اليوم إن سورية والجزائر هما آخر من تبقّى من حلفاء جيوإستراتيجيين بعد «خسارة» ليبيا، ويؤكد هؤلاء ان سورية هي الأهم بالنسبة الى روسيا، حيث إنها تحتضن القاعدة الوحيدة للأسطول الحربي الروسي في الخارج (في طرطوس)، ويشرح متخصصون أن فرض العقوبات الدولية على سورية يعني خسارة صناعة الاسلحة الروسية اربعة بلايين دولار على الفور، علماً ان 10 في المئة من صادرات موسكو من السلاح تذهب الى دمشق، من بينها صفقة طائرات ميغ (24 طائرة) تمثِّل ثلث انتاج الشركة الروسية المصنعة. وفي حسابات الكرملين أن اللحاق بالسياسات الغربية لم يجرَّ عليه سوى الخسارة، فالعقوبات على ايران أفقدته 13 بليون دولار، وهو بعد ان كان شطب اربعة بلايين ونصف بليون دولار من ديون ليبيا، خسر أربعة بلايين دولار هي ثمن أسلحة كانت ستباع الى هذا البلد، وطُوي مشروع سكة حديد سرت–بنغازي. هكذا يحسب الروس علاقاتهم مع دول «الربيع العربي» و... «الإقليمي»، وهي حسابات اقرب ما تكون الى حسابات التاجر المبتدئ لا الى سياسات الدولة العظمى والمؤثرة. وربما يعود ذلك الى استمرار عقلية الربح السريع التي نشأت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي على يد مجموعات من الرأسماليين الجدد ومنظريهم من بقايا رموز الحزب الشيوعي، الذين وضعوا تجاربهم وعلاقاتهم الخارجية في خدمة المتمولين الجدد، فالعلاقة مع التحولات العربية لا يمكن ان تبنى على مصير صفقة سلاح، وما تقوم به الشعوب العربية ليس مجرد انتفاضة تاجر على آخر. ولا شك في أن الرأي العام الروسي بدأ يشعر بأن شيئاً آخر ينبغي القيام به. كتبت الصحافية ماريانا بيلينكايا في صحيفة «نيزافيسيمايا غازيتا» (5/8/2011): «كانت روسيا تتمتع دوماً بالمحبة في سورية، لكنها لم تكن بهذا القدر من المودة الخالصة منذ وقت بعيد، وكان باستطاعة المرء حتى وقت قريب ان يرى الى جانب لافتات التأييد للأسد أخرى مكتوبة بعدة لغات مختلفة يرد فيها: «شكرا روسيا» و «شكرا الصين»... وقال عسكري كبير متقاعد: «تختلف روسيا عن البلدان الغربية في كونها تتفهمنا (...)، ولا يشاطره هذا الرأي الجميع في سورية. ويبدو أنه أعقب الانقسام الداخلي في البلاد حدوث انقسام على صعيد السياسة الخارجية. وقد يقول البعض في حماة لدى سماعهم عبارة «صحافيون روس»: «إننا سنطردكم من القاعدة البحرية في طرطوس حالما تنتصر الثورة... لماذا تؤيد روسيا النظام الدموي وليس الشعب السوري؟». يعكس هذا المقتطف من نص طويل تحفل الصحف الروسية بأمثاله، قلقاً لم ترتفع القيادة في موسكو الى مستواه، بل إنها لا تزال في اختبائها وراء الموقف المبدئي الرافض لقرارات تصدر عن مجلس الامن الدولي، أقربَ الى المراقبة السلبية لما يجري، بما يهدد بإفقادها السلطة والمعارضة في آن معاً. ولم تتعلم موسكو من السلوك الأميركي في تونس، وخصوصاً في مصر. لقد افترضت واشنطن ان إطاحة نظام حسني مبارك ستكون ضربة موجعة لسياساتها وموقعها في الشرق الاوسط، وكان هذا رأي «الممانعين» العرب والإيرانيين وصولاً الى موسكو وبكين، لكن ثمانية ايام كانت كافية للبيت الأبيض الأميركي كي يعيد حساباته ويرسم بمرونة فائقة نهجاً مختلفاً. كان موقف وزيرة الخارجية الاميركية هيلاري كلينتون في اليوم الاول لبدء الاحتجاجات الشعبية في مصر (25 كانون الثاني/ يناير) القول إن مصر دولة قوية ونظامها مستقر، وفي اليوم الثاني رأت انه تجب الاستجابة للمطالب لكن الاحتجاجات لا تهدد النظام، ولاحظت في اليوم الثالث عناصر مهمة في المجتمع المدني ينبغي أخذها في الحسبان، وفي اليوم الرابع أبدت قلقها من وقف شبكة الإنترنت، وفي اليوم الخامس رحبت بالانتفاضة، قبل أن يؤيد أوباما انتقالاً سلمياً للسلطة، ثم ليقول في اليوم الثامن: الانتقال الآن. ما يربط روسيا بسورية اليوم، ومنذ عقود، مماثل لما يربط مصر بأميركا منذ مطلع السبعينات، ومن المستغرب ان لا تبادر موسكو الى استنفار علاقاتها المتشعبة داخل المجتمع السوري وعلى مستوى القيادة السياسية والعسكرية، وهي التي خرَّجت في معاهدها نخبة سورية واسعة وعميقة الجذور، من اجل طرح مبادرات عملية تخرج سورية من الوضع الذي تتخبط فيه، بما يستجيب لآمال الشعب في الحرية ويضمن مستقبل سورية الحرة والموحدة. حتى الآن لم يتحرك الدب الروسي رغم كل الكلام عن الحرص على سورية ومستقبلها، ولا يكفي اتصال هاتفي بين ميدفيديف والأسد، أو آخر بين المعلم ولافروف، كما لا تكفي زيارة لوفد غير معترف فيه رسمياً برئاسة ماتوزوف «الخبير الروسي-السوفياتي» يحلّ ضيفاً على شركة «الباشق» السورية غير الرسمية. لقد خسرت موسكو كثيراً في العالم العربي، فهل تتحرك قبل فوات الأوان لمساعدة سورية ولتعود عبرها الى ممارسة دورها المطلوب... والمفقود؟