لم يحدث في تاريخ السودان السياسي الحديث على مدى ستة عقود أن تولى حكمه رئيس يجيد زلات اللسان بطلاقة يحسده عليها سكان المدن الشهيرة بألسنة سكانها الفالتة، ولم يمر على السودان يوم نجح فيه رئيس يحكمه في استقطاب كم هائل من العداوات والثأرات والغيظ المكظوم حدّ الانفجار، ولا عرف السودانيون منذ رحيل الاستعمار البريطاني من بلادهم رئيساً يمكن إعطاؤه الدرجة الكاملة في تقسيم صفوف مواطنيه، وتفتيت حدودها التي ورثها من أسلافه ومن المستعمر. وحده المشير عمر حسن أحمد البشير حقق تلك الأرقام القياسية التي ستضاف إلى سجل أدائه في رئاسة بلاده، فقد سمعه السودانيون يصف مواطنيه المعارضين لحكمه بأنهم أنجاس وسكارى، وأن عليهم الاغتسال بماء البحر قبل أن يمد يديه إليهم، وحين وُوجِهَ بصدور قبض دولي بحقه إثر اتهامه بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية لشعب دارفور، ردّ بأن على المجتمع الدولي أن يبلّ ورقة القبض عليه بالماء ويتجرّعها! ويوم طالبت فرنسا وبريطانيا المجتمع الدولي بتنفيذ أمر القبض الدولي الذي جعل الرئيس السوداني يرقص في «قفص» محدود، فوجئ السودانيون برئيسهم يعلن أمام عشرات الآلاف من مواطنيه أن فرنسا وبريطانيا وغيرهما من الدول الغربية تحت حذائه! وأمس القريب سبّ البشير مواطنه مالك عقار، الحاكم المُقَال لولاية النيل الأزرق، القيادي في الحركة الشعبية المعارضة، في خطاب أمام الجماهير، واصفاً إياه بأنه «ثور» وبأن بدنه ضخم لكن رأسه صغير. كل تلك الردود والطلقات اللفظية الطائشة ليست من شيم السودانيين وأخلاقهم في شيء. صحيح أن السوداني عرف بحميَّته وهبّاته من أجل كرامته وإنسانيته، لكنه في الغالب العميم حكيم ذو بصر وبصيرة، ولا يتفجر مرْجّلُ غضبه إلا إذا استغلق الأمر وانسدت أبواب الحلول أمامه. وكان مأمولاً في حال البشير أن يبقي على القليل مما لم يقضِ عليه نظامه من أخلاق الرجال وشيم القوم وآدابهم. منذ متى أضحى الرجال يعابون ببدانتهم، أو كبر أعمارهم، أو الخلقة التي سوّى بها الله وجوههم وأجسامهم؟ ومنذ متى يتعارك السودانيون في مسرح السياسة بالألفاظ غير المهذبة والنعوت الجارحة؟ تلك أشياء لم يعهدها السودانيون منذ أول حكم وطني انتخبوه في عام 1953، وحتى في عهدي الحكم العسكري السابقين بزعامة الفريق إبراهيم عبود والمشير جعفر نميري. أن يفقد البشير أعصابه، ويتخلى عن ديبلوماسية رجل الدولة وزعيم الأمة السودانية بشعوبها وأعراقها المتعددة، ويكرَّس صورته قائداً لا يطرف له جفن حين تفلت السهام الطائشة من كنانته، أمر يدل على أن أزمات الرجل تكاد تحكم خناقها عليه. فقد انتهى به الأمر خاطباً ود الحزبين اللذين انقلب عليهما وكال لزعيمهما محمد الميرغني وصادق المهدي السباب والشتائم، أضحت خزانة نظامه خاوية من مال النفط الذي ذهب جنوباً، فلما صَعُب عليه استحصاله أمر بسرقته، بحسب اتهامات قادة دولة الجنوب السوداني، وصار محاصراً في قصره الخرطومي، عاجزاً عن التوجه إلى أي دولة صديقة، حتى كينيا التي تجاور السودان جنوباً أمر قضاتها بالقبض عليه إذا وطئ أرضها، باعتباره مطلوباً جنائياً دولياً. ولما اشتد حصار المتظاهرين الغاضبين في جامعة الخرطوم ومنطقة «المناصير» في الشمال السوداني، قال الرئيس لمواطنيه إن من ينتظرون ثورة «ربيع عربي» في السودان سينتظرون طويلاً، لأن الربيع العربي اجتاح السودان ليلة الانقلاب العسكري الذي أتى به إلى السلطة في عام 1989. وكان لافتاً الاستغراب على وجوه سامعيه الذين صعب عليهم الجمع بين الربيع وما هم فيه منذ 1989 من شظف وتقشف وفساد ومتاجرة بالدين وقتل للأنفس، وكذب وتدجيل على الشعب، تحت مسميات ما أنزل الله بها من سلطان كالثورة التعليمية، وتوظيف الخريجين، والتمويل الأصغر، والنهضة الزراعية، ونأكل مما نزرع. وكل مرة ينطلق الإعلام الحكومي المسعور باصطلاح فضفاض جديد، تنقض آليات النظام وأجهزته الأمنية على الحريات والتجمعات المشروعة، وتنهار السياسات الاقتصادية فيكتوي السكان بنار الغلاء وندرة السلع. وكلما ازداد الشعب فقراً وذِلَّة وضياعاً، أعلن البشير أن الفترة المقبلة ستشهد تطبيق الشريعة الإسلامية، كأنها الترياق لسموم الفساد والانحلال والفشل التي يصرف وصفتها النظام نفسه، واثقاً مطمئناً من أن آلة القتل وسلاح الجيش وميليشيات الجبهة الإسلامية «النافقة» ستكتسح كل الغاضبين والمعارضين والراغبين في التغيير. سيجد البشير أن حبل الإساءات ليس طويلاً، وأن سيف محكمة الجنايات الدولية أمضى من ادعاءات الحصانة والتهديد بالقتال حتى آخر قطرة دم، وأن من سيتصدون لكتابة تاريخ السودان والوطن العربي سيكتبون أنه الرئيس الذي أدت سياساته لفصل الشطر الجنوبي، وجعلت منه قاعدة لإسرائيل في خاصرة العالم العربي، وأن بوابة الإسلام إلى أفريقيا غدت حصناً منيعاً لصد الإسلام عن التمدد في أعماق القارة السمراء... بل سيكتبون أنه أول رئيس في العالم يصدر بحقه أمر قبض جنائي بتهمة إبادة شعبه أثناء جلوسه في كرسي الحكم. ولو حَمَتُه أسلحة وميليشيات حزبه من المغبونين من أبناء شعبه، فهي لن تحميه من سطور كتب التاريخ. * صحافي من أسرة «الحياة». [email protected]