يعيش الإنسان حياته وهو يكشف عن الرموز، فالإنسان يرمز في حركته لتفاصيل تسكنه، من خيالٍ وثقافةٍ وأحلام. للمكان مضمونه الذاتي الذي نرسمه عليه نحنُ. الفيلسوف الفرنسي «غستون باشلار» أعادنا إلى رمزية المكان وشاعريته، في كتابه «جماليات المكان»، ذلك أن للمكان طاقته الرمزية المؤثرة على صيغ الرؤية وعلى الحلم، كما يؤثر على ممارسة الوجود وعيش الحياة على النحو الذي نعيشه.يكتب «باشلار»: «المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكاناً لا مبالياً، ذا أبعادٍ هندسيةٍ وحسب، فهو مكانٌ قد عاش فيه بشرٌ ليس بشكلٍ موضوعي فقط، بل بكل ما في الخيال من تحيّز، إننا ننجذب نحوه لأنه يكثّف الوجود في حدودٍ تتسم بالحماية». أخذت المجتمعات أخلاقيات المكان والتضاريس. للمكان تدخلاته الرمزية في الصراعات والتحريض عليها، فالأرض هي الذات بوجهٍ آخر. المكان حيث الموارد، والموروث التاريخي، والقبور، والأماكن التي ورّثت للناس، يضغط المكان على الناس، ويحضر بمضمونه مؤثراً على أشعارهم وأدبهم وعلى خيالهم، ليرسم أطر القيم التي تحركهم. وفي هذا يكتب باشلار: «إن مكان الكراهية والصراع، لا يمكن دراسته إلا في سياق المواضيع الملتهبة انفعالياً والصور الكابوسية». المكان يعيش بالناس، كما أن الناس يعيشون فيه، والحركة الاجتماعية لا تتعامل مع المكان بشكلٍ آلي، بل يطبع المكان بصماته على أفعال الناس ويؤثر على المعنى الوجودي الذي يتخيلونه، لأن الرموز الكبرى كلها يحملها المكان. في فيلم «Black Gold» الذي يُعرض حالياً في السينما طرُحت قصةٌ متخيّلة، حول صراع بين مملكتين خياليتين، في صحراءٍ عربية، تندلع بينهما حرب شديدة بسبب البترول، ضغط الشريط البصري على المشاهد ليعرض رمزية مأسوية لذلك المجتمع الذي يصارع الصحراء. الشقاء الذي أثّر على التعاطي الاجتماعي كان متصلاً بالمكان الشحيح، إذ يحلبون الأرض طولاً وعرضاً بحثاً عن قطرة ماء. الفيلم، من بطولة «أنطونيو بانديراس»، والممثل الجزائري «طاهر رحيم»، و الممثلة الهندية «فريدا بنتو»، يمكن قراءته برموزه الكثيفة العميقة، ويمكن التلذذ بالقفشات الحاضرة في كثيرٍ من المشاهد، لكن بطولة الفيلم الحقيقية كانت للصحراء المهيبة التي كان لتصوير صراع الإنسان معها دلالة بليغة ومؤلمة. وإذا كان الروائي والباحث إبراهيم الكوني يرى في الصحراء «قطباً قيمياً يجذب كل قيم الخير، وأنها وليست مجرد حيز جغرافي ممتد، ومهمل، وخالٍ، وإنما مكتنز بالمثل والقيم الرسالية»، فإن في الصحراء مضامين تشبه سكانها، تغرقهم بالقيم التي ينتجها المكان المتصحّر الذي يبخّر الخيال، ويقهر الأحلام. في الفيلم يدخل «عودة» على زوجته، وحين تراه تشير إلى النافذة في بيت «الحريم» وتصفها بأنها: «الثقب الذي نطلّ من خلاله إلى عالمٍ لا يتغيّر». إن المكان الذي لا يثري الحلم، ولا يحمل إلا مضامين المرور السريع على الحياة يضع قاطنيه كلهم على شفا قبرٍ كئيب. في الفيلم حضرتْ مضامين كثيرة لتلك المملكتين الصحراويتين من بينها: «الدين، القبيلة، الكافر، الحجاب، العبودية، عزل المرأة، المهدي»، والفضاء الذي يمكن للصحراء أن تجود به على الخيال بوصفه طاقة إثراء الحياة لا يمكن أن يحمل الناس على إثراء المكان. الأمكنة فضاء كينونتا نحنُ، وهي التاريخ المفتوح يومياً أمامنا، وهي ترسمنا كما نرسمها، والمجتمعات التي لا تجدد في مخيلتها لن تجدد أمكنتها، والصحراء تحصر الخيال بتحدياتها اليومية. للشريط السينمائي بوحه الذي يشبه الأنين، إذ يذهب بك من خلال مشهدٍ باذخ، أو موسيقى مفاجئة، إلى قراءتك الذاتية للمعنى الذي يرمز إليه، أن نقرأ مضمونه الذي نراه فيه، حتى وإن لم يقصد الفيلم إفهامنا المعنى على النحو الذي فهمناه، ذلك أن الفيلم «الفيلم لا يفكّر به بل يُدرك»، كما يعبر «ميرلوبونتي». [email protected] twitter | @shoqiran