حتى بعد النتائج المبهرة لمرشحي التيار الإسلامي (من «إخوان» وسلفيين) في الجولة الأولى من المرحلة الأولى للانتخابات البرلمانية المصرية، فإن القوى المدنية المنافسة للإسلاميين لم تستوعب نكستها، واختارت أن تدفن رأسها في الرمال، وسارت في الطريق الأسهل بتضخيم بعض السلبيات التي جرت قبل وأثناء عملية الاقتراع، أو إرهاب المجتمع بأن أتباع «هولاكو» جاؤوا ليحكموا البلاد، أو تسطيح القضية بالحديث عن قضايا تافهة مثل موقف الإسلاميين من المايوهات! أو تضخيم بعض سلوكيات أفراد من «الإخوان» أو السلفيين كتوزيعهم اللحوم والخضروات على جمهور الناخبين! ووفقاً لهذا المنطق فإن القوى المدنية تشيع أنها أدَّت ما عليها ولم تقصِّر، وأن النتائج لا تعكس الإرادة الحقيقية للمصريين، وأن أسباب انتصار الإسلاميين لا علاقة لها بسوء أداء القوى المدنية منذ سقوط نظام الرئيس حسني مبارك! لم يخرج رمز واحد من رموز التيار الليبرالي أو اليساري أو القومي أو الناصري ليعترف أمام الناس أن المواجهة مع الإسلاميين جرت إدارتها بطرق خاطئة وأساليب مغلوطة، ولم يقرّ أحد منهم بأن الاعتماد على الإعلام والفضائيات في تشويه صورة الإسلاميين زاد من التعاطف معهم، أو أن إعلانات مرشحي التيار الليبرالي في قنوات الأفلام والدراما والموسيقى وبين فقرات برامج ال «توك شو» بكثافة، والإنفاق المذهل استفزت الناس، أو أن توزيع ملصقات الدعاية فوق الجسور وعلى جوانب الشوارع والميادين وسط إعلانات المياه الغازية وأفلام السينما لم يأتِ بأصوات الناخبين وإنما صرفها، أو أن تصيّد انفلات بعض الإسلاميين وترويج عبارة قالها واحد منهم أو أكثر، على كل مواقع التواصل الاجتماعي وبين فقرات البرامج في قنوات يملكها رجال أعمال ليبراليون، لم يجعل الناس تغفل عن انفلات مماثل مارسه رموز النخبة الليبرالية واندفاع مخجل وقع فيه بعض رموز الدولة المدنية، كطلب أحدهم تدخل الغرب لحماية الأقليات، أو الإنفاق على حملات القوى المدنية في الانتخابات!. لم يراجع أصحاب الاتجاه الليبرالي أنفسهم أو يكتشف أي منهم أن بعض من كانوا ينفِّرون الناس من الإسلاميين وقعوا في أخطاء فادحة ترجمها الناس على أنها ليست مجرد انتقادات للإسلاميين، وإنما هي صدام مع الدين الإسلامي نفسه، كما لم يكتشف هؤلاء أن انتقاد الإسلاميين لاستخدامهم المساجد في السياسة صدر عمّن كانوا في الوقت نفسه يتزاحمون على نيل رضا الكنيسة، وكسب دعمها لمرشحيهم! لم تلاحظ القوى المدنية أن انقسامها وتشتتها وتشرذمها منح الإسلاميين مزايا تنافسية، ففاز بعض المرشحين من «الإخوان» أو السلفيين في دوائر نافس فيها الليبراليون أنفسهم. لم يدرس الليبراليون تجاربهم مع الأحزاب الجديدة التي أفرزت نحو خمسة أحزاب ليبرالية من دون داع، إلا البحث عن أدوار أو... أضواء. لم تدرك القوى المدنية حجم التناقضات بين مكوناتها ما بين ليبرالية وناصرية ويسارية وقومية، ولم تبرر للناس لماذا اجتمعت على مواجهة المجلس العسكري والإسلاميين وتركت الشارع وخذلته. لم تتبين القوى المدنية أن خطابها الاستعلائي على الناس باعد بين مرشحيها وبين جمهور المقترعين في مقابل خطاب هادئ وبسيط وشعبي استخدمه الإسلاميون وحققوا به تواصلاً أكبر مع الناس. هل سأل الليبراليون أنفسهم لماذا فاز الدكتور عمرو حمزاوي (الليبرالي) من الجولة الأولى، ونال أكثر من 160 ألف صوت مقابل 40 ألفاً لمنافسه «الإخواني»؟ وكيف فاز مرشح «الإخوان» في المعادي ونال نحو 450 ألف صوت، محققاً رقماً قياسياً في تاريخ الانتخابات المصرية؟ هل وعوا أن حمزاوي اختار الترشح في الدائرة التي سجَّل الناخبون فيها أكبر «لا» للاستفتاء على الإعلان الدستوري؟ وهي الدائرة نفسها التي لم يرشِّح فيها «الإخوان»، لعقدين من الزمن، أياً من رموزهم؛ حيث كانوا يتركونها خالية لنقيب الأطباء السابق الدكتور حمدي السيد، فنال حمزاوي فرصاً تنافسية أفضل كثيراً من منافسه «الإخواني»؟ هل تعلَّم الليبراليون الدرس؟ وهل أدرك اليساريون حجم أخطائهم؟ هل اتفق مناصرو الدولة المدنية على الكفِّ عن العويل والبكاء، والبدء في اتباع استراتيجيات أخرى غير تلك التي أدَّت بهم إلى الهزيمة؟ لم يتفقوا، لأنهم لم يتعلموا، ولم يدركوا، ولم يغيروا مسارهم، وهم مستمرون في الطريق نفسه الذي يمنح الإسلاميين أصوات الناس... وإعجابهم.