يقول ممدوح علوان في كتابه «حيونة الإنسان» إن مجتمعات القمع، القامعة والمقموعة، تغرس في قلب كل فرد فيها ديكتاتوراً صغيراً. وبحسب المؤلف، فإن كل فرد فيها، مهما علا صراخه من الألم واشتد بكاؤه من الظلم، فإنه سوف يمارس هذا القمع وربما ما هو أقسى منه وأشد، فيما لو أمسك بالسوط في يده إجمالاً، العنف هو ما يطبع علاقة الحاكم بالمحكوم، والكبير بالصغير، والغني بالفقير، والقوي بالضعيف، والزوج بالزوجة، والأخ بالأخت. إن الموظف المقهور من مديره في العمل سرعان ما يتحول إلى قاهر بمجرد دخوله البيت، والشرطي الصغير الذي يتلقى بخضوع إهانات رئيسه سرعان ما ستنبت له أنياب عندما يمسك برجل الشارع العادي، و»الخضيري» الذي يشكو في مرارة استعلاء «القبيلي» وطبقيته سرعان ما سيسخر في تعالي وفوقية من بقية فئات قاع المجتمع المسحوقة والمهمشة! القمع والتسلط قابع تحت طبقات الجلد واللحم وكامن تحت طبقات التاريخ. لم يُعرف القمع لأول مرة مع صعود جمال عبد الناصر وصدام حسين وحافظ الأسد وجعفر النميري وبقية المستبدين المعاصرين الأحياء منهم والأموات، الطغيان والتسلط متجذر في الشخصية العربية منذ القدم، واقرأ في سير زياد بن ابيه والحجاج بن يوسف وأبي العباس السفاح وغيرهم لعلك تقتنع، أن من يقلب في صفحات الماضي بحيادية الباحث ويتجرد من الميول والأهواء سوف يدهش من كثرة الحروب التي قامت، ومن كثرة الرؤوس التي تساقطت، ومن غزارة الدماء التي سالت، إن من ينشد العدل في سيرة الأسلاف لن يجد غير نهر متدفق من الدم وليل طويل من الظلم. قامت ممالك قديمة على أنقاض ممالك أقدم رافعة شعارات براقة تبشر بفجر الحرية وبشمس العدالة فلما أمسكت بناصية الحكم سارت في الخلق بالسيف كما كان أسلافهم يصنعون. كان العباسيون يفرشون دروب الناس بالأحلام الملونة ويضيئون الغد بوعود العدل والقسطاس بعد أن حكمهم الأمويون بالظلم والجور، فلما قامت دولتهم على أكتاف هؤلاء المخدوعين لحسوا وعودهم وانقلبوا عليهم ليذيقوهم من كؤوس المر والهوان، لقد تعددت الوجوه والأسماء والألوان والتواريخ والاستبداد والقمع واحد لا يتغير ولا يتبدل. هل يهبط القامعون المستبدون من كوكب بعيد، أم يخرجون من باطن الأرض، أم تراهم يصنعون في دوائر الغرب السياسية؟ في الحقيقة، إنهم يولدون من صلب المجتمع ويخرجون من أحشاء تلك الجماهير الهادرة. لو لم تكن أوطان العرب رحماً دافئاً لاحتضان أجنة الاستبداد ولرعاية القمع لما تفشى فيها العنف وساد فيها الظلم قرناً بعد قرن. إن تلك الجماهير التي تهتف باسم جلادها في النهار وتلعنه في السر سوف يخرج من أوساطها في الغد ديكتاتور آخر يحل مكان سلفه ليسومها سوء العذاب، المشكلة لا تكمن في هوية الحاكم المستبد ولا في ممارساته القمعية والوحشية وإنما في تلك الثقافة التي تنتج العنف وتطيل آماده، المواطن العربي يتمنى الخلاص من جلاده اليوم قبل الغد، ولكنه يحمل في داخله إعجاب مكتوم بحاكمه المستبد، ألا تتكرر على مسامعك كلمات الترحم على أيام المشنوق صدام حسين – مثلاً – رغم سجله الإجرامي والدموي؟ هل يصح أن نقول أننا مجتمعات «مازوخية» استمرأت القهر والطغيان؟ اعتقد ذلك. ولكن، ماذا عن الثورات العربية اليوم؟ ألا تجد فيها تمرداً على عقود طويلة من الذل والخوف والكبت؟ ألا تلوح هذه الثورات بشعارات الحرية والخلاص من الطغيان؟ قد يبدو هذا صحيحاً نظرياً، ولكن عملياً لا اعتقد أن تلك الثورات ستفرز واقعاً جديداً وتحرر العربي المسحوق من قيود القهر وسجون الظلم، الخلاص الحقيقي من ميراث القمع يستلزم غرساً طويلاً لقيم الحرية والديموقراطية، وتدريباً شاقاً على احترام حقوق الإنسان، وتفكيكاً بطيئاً لبنى التخلف الصدئة. ما جرى كان أشبه بصدفة لم تكن منتظرة، ما جرى هو أن عربة «البوعزيزي» قد أكلتها النار فسقطت منها شرارة في خزان متراكم من القهر والألم لينفجر في تونس ومن ثم لتمتد ألسنة النار هنا وهناك، لا تبدو لي أن تلك الثورات التي تكمم أفواه من ينتقدون سلوكها ستعبر بشعوبها إلى ضفاف جديدة، ولو كانت تلك الثورات تهفو إلى عهد الحرية والقطيعة مع عهود الاستبداد الثقيلة لما صارت جسراً تعبر فوقه جماعات الإسلام السياسي المطبوعة باحتكارها للرأي الواحد ونبذها للديموقراطية حتى وإن تظاهرت بخلاف ذلك! [email protected]