عيد يعود كل عام من آلاف السنين «يوم الحج الأكبر» عيد الأضحى المبارك، وفيه يذبح المسلمون - على ملة إبراهيم عليه السلام - نسكهم «هدياً للحجاج وأضحية لغيرهم» لتعود الذاكرة إلى «وَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ» حين أَنزَل إبراهيم - عليه السلام - زوجه هاجر وابنه إسماعيل في هذا الوادي، ويتركهم استجابة لأمر إلهي وإرادة ربانية، ويَنفُد ما مع هاجر من قليل طعام وشراب، فتستشرف من على جبل الصفا علّها أن تسمع أو ترى أحداً، ثم تنزل متجهة إلى جبل المروة علّها أيضاً أن تسمع أو ترى، ولكن لا أحد، ولا صدى، ولا جدوى، إلا ملك الله عند الطفل البريء، ليحرك في الأرض فينبع الماء وتأتي هاجر العطشى تزمزم الماء تقول: «زم زم» - تحوطه وتجمعه - وتذهب الأيام ويأتي إبراهيم النبي عليه السلام، وتتطور الأحداث ليرى في المنام - ورؤيا الأنبياء حق - ويتوجه بالخطاب للابن «بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى» ويستسلم إسماعيل «قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» وحين تصدق العزيمة، ويلتقي الحق مع الحقيقة. عندها يكون الأمر كما لو تم تطبيقه بالفعل «فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» كم في هذا المشهد من التأثير بين الوالد وما ولد! وكم فيه من الحكمة الإلهية العظيمة، إنها الروح حين تفكر وتتصل وتفعل، وليست مجرد حركات وأفعال مادية لا روح فيها. ولتبقى هذه القوة الطاقوية في الشعائر والمشاعر إلى الأبد، قرأت لجورج برايس، قوله: «إن إبراهيم عليه السلام وهو يطيع الأمر الإلهي بذبح ابنه يمثل النموذج لأي فرد يجد نفسه على الحدود القصوى للأخلاق». فليس لله حاجة في أن يذبح إبراهيم ابنه وفلذة كبده، وليس لله حاجة في لحوم الهدايا والأضاحي «لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ»، إنها الشعيرة، إنها التضحية، وحين يكون هذا المعنى حاضراً في قلب كل إنسان، فسيفهم أن الوجود ليس عابثاً، وأن للحقيقة ثمناً «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ». ومع الأسف فقد ضاع معنى التضحية عموماً في حياة الكثيرين، حين تحول نموذج التفكير ونموذج السلوك إلى «الأنانية» التي رسمت خريطة حياة الأفراد والمؤسسات، وهي نفسها خريطة الانهيار والسقوط. كما ضعف هذا المعنى في نُسك الأضحية والهدي، فكم هي الدماء التي تسال واللحوم التي لا تقدر حق قدرها، الأمر الذي لا نعتبره سوى نتيجة لسبب نحن معنيون بفهمه وقراءته، ولعلي هنا أن أسهم بقول مفتاحي لفهم السبب: أولاً: التفكير الفقهي والخطاب الديني المتمثل بالاعتناء الشديد بالشكل والمواصفات والمقاييس للهدي والأضحية، والذي يغيب عنه المعنى الروحي، ولو استعرضنا المدونات الفقهية سيما في عصرنا - عصر ظاهرة طالب العلم وأسئلة الجمهور - لوجدناها مادة جافة من الروح إلا قليلاً. وكم يسمع الحجاج من يفتيهم ب «دم، دم، دم» في أفعال الحج ومحظورات الإحرام. بنص مادي حسابي بين المفتي والمستفتي. ثانياً: اتخاذ البعض للأضحية على شكل الاعتياد، وتنفيذ الوصايا، كعمل يؤدى تغيب أو تضعف فيه المشاعر والذكريات للقصة الأولى للأضحية. ولعلك يا قارئي الكريم ونحن نتداول ذكرى هذا المعنى لا يغيب عنك مجاعات تهدد الإنسان في بقاع من الأرض هنا! وفي الصومال وغيره، فماذا لو تحولت بعض الأضاحي إلى هنا وهناك؟ أليس أعظ أجراً! ثم أليس من العمل الجليل أن نغادر الفتوى المثقلة بالتقليدية إلى فتاوى «ما ينفع الناس» فجميل هو الوعي والبصيرة الروحية. [email protected] twitter | @alduhaim